"ماذا لو حصل؟" ليس مجرد استفهام عابر، بل هو نداءٌ قادمٌ من أعماقٍ سحيقة، ينسج من الخوف شباكًا تُحاصر الروح. إنه صوت القلق الذي يُباغت اليقين، يُمطر سماء الذهن بوابلٍ من الاحتمالات التي لا تنتهي، ويترك العقل معلّقًا بين أرضٍ لا تُسند وسماءٍ لا تُغيث. هو صراع الأنا مع وهمِ المستقبل، حيث تُصبح الفروضُ واقعًا مخيفًا، وتتضخم الظنون حتى تُلقي بظلالها على كل خطوة. هذا السؤال، بحدّ ذاته، ليس شرًا، بل هو مرآةٌ تُرينا هشاشةَ إيماننا، وجهاز إنذارٍ ينبهنا إلى المناطق المعتمة في أرواحنا التي تحتاج إلى نور.
الإيمان كبوصلة ومرساة
لكن أن نُسلّم مصائرنا لسطوة "ماذا لو" هو بمثابة إعلان استسلامٍ مُسبق للحياة.
هنا يأتي دور "حتى لو حصل "، ليس كشعارٍ لفظي أجوف، بل كفعلٍ وجودي عميق. "حتى لو" هي بوصلة الروح التي تُعيد توجيهنا حين تختلط الجهات، ومرساة القلب التي تُثبّته في خضمّ العواصف. إنها ليست دعوةً للاستسلام الأعمى أو التغاضي عن المخاطر، بل هي أعلى درجات الحكمة والفاعلية؛ قبولٌ واعٍ بوجود ما لا نُسيطر عليه، مع الإصرار على السعي والتدبير فيما نملك.
التحول من الخيال إلى الفعل
الإيمان، في جوهره، هو ذلك التحوّل السحري من التوجّس الذي يُبدد طاقتنا، إلى اليقين الذي يُنظمها في فعلٍ هادئ ومتّزن. حين تُغرس هذه القناعة في القلب، تُصبح "ماذا لو" مجرد احتمالٍ يُوضع على ميزان القيمة، لا شبحًا يُجمّد الحركة. فبفضل "حتى لو"، نتعلم أن نُفرّق بين ما نستطيع إصلاحه وما لا حيلة لنا فيه، بين ما هو ممكن وما هو مستبعد، وبين ما هو من عملنا وما هو من حُكم الله.
وعندما تتصاعد الظلال وتُصبح الخسارة حقيقة، "حتى لو" لا تُلقي بنا في بئر اليأس، بل تُحول الخسارة إلى درسٍ، والامتحان إلى فرصةٍ للنمو. إنها اللحظة التي يُجدّد فيها القلب عهده مع نفسه: سنختار الخير ولو كان الثمن باهظًا، سنقوم بالواجب ولو خذلتنا النتائج، وسنُحافظ على جوهرنا ومعناه ولو خانتنا الظروف.
"حتى لو" ليست نهاية الطريق، بل هي بدايته الحقيقية؛ بدايةٌ لا تُقلقها الاحتمالات، لأنها تُبنى على جذعٍ من اليقين لا تهزه العواصف. إنها الانتقال من خيالٍ يبتلعنا، إلى واقعٍ نصنعه، ومن سؤالٍ يستهلكنا، إلى جملةٍ تُؤَسّسنا وتمنحنا القوة على الاستمرار.
التعليقات