في كل مرة يُجرح القلب، يُولد في أعماقه معمارٌ خفيّ... معمارٌ لا يُشيّده البنّاؤون، بل تنسجه خيوط الخذلان الحريرية، حجراً فوق حجر، حتى يصبح القلب مهندساً لسجنه الخاص.
إن الإنسان - في جوهره - كائنٌ مُفطور على الانفتاح، مُصمّم ليكون كالنهر الجاري لا كالبحيرة الراكدة، لكن الجراح تُحوّله إلى نقيضه: تجعله يُشيّد حول ذاته قلاعاً من الصمت، وأبراجاً من التحفّظ، وخنادق من الشك العميق.
حين تخون الثقة لأول مرة، يبدأ القلب في طقوس البناء الصامتة. يضع الحجر الأساس: "لن أُحبّ بهذه السذاجة مرة أخرى"، ثم يُشيّد الجدار الأول: "لن أكشف عن مشاعري بهذه السهولة"، وهكذا دون أن يُدرك، يُتقن فن العمارة الدفاعية حتى يُصبح قلبه كالقصر المهجور: فخم من الخارج، لكنه خاوٍ من الداخل. والمفارقة القاسية أن هذه الجدران - التي تُبنى لحماية القلب من الأذى - تحبس معه كل ما يُحيي الروح: الفرح العفوي، والحب الصادق، والضحك من القلب، والدهشة من جمال الحياة.
يصبح الخوف - بمرور الوقت - سلطاناً مُطلقاً في مملكة القلب، يُصدر المراسيم: "لا تقترب كثيراً"، "لا تثق بسرعة"، "احتفظ بمسافة آمنة"، وتتحوّل هذه المراسيم إلى قوانين وجودية يعيش بها الإنسان حتى لو كانت تُميته ببطء. يُتقن القلب المجروح فن الصمت المُقدّس - لا صمت الحكماء الذي يُولد من الامتلاء، بل صمت الخائفين الذي يُولد من الخواء - فيُصبح الكلام مُحاطاً بألف حاجز، والمشاعر مُغلّفة بألف قناع.
أعمق مأساة في طبقات الألم أن الحارس يتحوّل إلى سجّان. ما بُني لحماية القلب، يُصبح قيداً عليه. الجدران التي كان يُفترض أن تمنع دخول الألم، تمنع أيضاً دخول الحياة. يُصبح الإنسان كمن يعيش في بيت بلا نوافذ: آمن من العواصف الخارجية، لكنه محروم من ضوء الشمس، من نسمة الهواء العليل، من رؤية النجوم في الليل. هناك موت لا يُعلن عن نفسه بالصخب، بل بالسكون المُطلق - موت يُصيب المشاعر فتُصبح كالأزهار المُجفّفة: تحتفظ بشكلها، لكن روحها ذبلت.
في هذا السياق، يأتي القرآن الكريم ليكشف الحكمة الإلهية العميقة: "وجعلنا بعضكم لبعضٍ فتنة أتصبرون" [الفرقان: 20]. الابتلاء ليس عقاباً، بل مدرسة، والامتحان ليس في ألا نُجرح، بل في كيف نتعامل مع الجرح. الصبر المقصود هنا ليس الصبر السلبي الذي يُحوّل الإنسان إلى حجر، بل الصبر الإيجابي الذي يحافظ على نور القلب رغم ظلمة التجربة. وفي السنة النبوية نجد هذا المعنى يتجسّد في قوله ﷺ: "المؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم، اعظم اجرا من المؤمن الذي لا يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" [رواه الترمذي]، فالحديث يُؤسّس لفلسفة الانفتاح الواعي - ليس انفتاحاً أعمى يُؤدي إلى الأذى المُتكرّر، ولا انغلاقاً أعمى يُؤدي إلى الموت الروحي، بل انفتاحاً حكيماً يجمع بين الحب والحذر، بين الثقة والفطنة.
الحب الحقيقي ليس رفاهية عاطفية يتمتّع بها من لم يُجرح قط، بل هو أعلى درجات الشجاعة الروحية - قرار واعٍ أن تضع قلبك مرة أخرى في يد الحياة وأنت تعلم تماماً أنها قد تكسره، لكنك تفعل ذلك ليس لأنك غافل عن المخاطر، بل لأنك أكبر من المخاطر، لأنك أدركت أن الحياة بلا حب ليست حياة، بل مُجرّد وجود بيولوجي. القلب الناضج هو الذي يتعلّم فن التوازن الدقيق: ينفتح لكن ليس لكل أحد، يُحب لكن ليس بعمى، يثق لكن ليس بسذاجة، يحمي نفسه لكن لا يسجنها. إنه كالحديقة الحكيمة: لها أسوار تحميها من الضواري، لكن لها أيضاً أبواب تفتحها للأحباب، ونوافذ تُدخل النور والهواء.
طبقات الألم - في نهاية المطاف - ليست قدراً محتوماً، بل اختيار بين أن نبقى أسرى لجراحنا القديمة، أو أن نُحوّلها إلى حكمة تُنير دربنا.
التحرر لا يعني إنكار الألم أو تجاهل الجراح، بل تحويلها إلى قوة، أن نجعل من كل كسر في القلب فتحة للنور، ومن كل جرح نافذة للرحمة. اجعل قلبك مأوى للأحياء، لا متحفاً للخذلان - لا تُحوّل ذكرياتك المؤلمة إلى أصنام تعبدها، بل إلى دروس تتعلّم منها. افتح قلبك مرة أخرى، لا لأنه لن يُكسر - فهذا وهم - بل لأن الكسر أيضاً جزء من جماله، كما أن الفجر لا يُولد إلا من رحم الليل، والوردة لا تتفتّح إلا بعد أن تشقّ البرعم.
المطلوب في النهاية ليس قلباً لا يُجرح، بل قلباً يتعافى بحكمة - لا قلباً لا يخاف، بل قلباً يُحب رغم الخوف، لا قلباً لا يُخدع، بل قلباً يظل نقياً رغم الخداع. هذا هو النضج الروحي الحقيقي: أن تحتفظ بطفولة القلب مع حكمة العقل، أن تُحب بعمق الحكماء وعفوية الأطفال، فالحياة - في جوهرها - ليست رحلة بحث عن الأمان المُطلق، بل رحلة بحث عن المعنى والجمال، حتى وسط الألم.
"إن القلوب إذا تحاصرت بالأسوار، ماتت. وإذا انفتحت بلا حكمة، جُرحت.
التعليقات