في أعماقنا سِرٌّ لا يُفصح عن نفسه إلا همساً.. حنينٌ لا يكفّ عن النبض، كأنما القلب يُذكّرنا، بين الحين والآخر، أننا خُلقنا من أجل حبٍّ لا يتبدّد. حبٍّ لا يشبه سواه، لا يقاس بكمّ، ولا يُختبر بمنطق، ولا يُشترى بثمن. هو كالنسمة التي تملأ الروح دون أن تُرى، وكالضوء الذي يرشح من بين السحاب دون أن يُمسك.
كم منّا، وهو يمرّ بين العلاقات، ويخوض غمار العواطف، يظنّ للحظة أنه وجد البديل عن ذلك الحب الأول؟ حب الأم الذي يُشبه الينبوع الذي لا ينضب، وحنان الأب الذي يُشبه الجبل الذي لا يهتز. نبحث عنه في عيون الآخرين، وننتظره من قلوبٍ قد لا تعرف كيف تُعطيه، ثمّ نعود، كالطير الجريح، إلى ذلك المرفأ القديم.. حيث كان الحب يُمنح بلا شرط، ويُعطى بلا حساب.
الحب البشريّ، في أرقى تجلياته، يبقى قصّةً مؤقتة بين طرفين.. يُضيئهما الوهجُ حيناً، ثمّ يخبو. قد يصمد أمام الريح، وقد ينكسر كالغصن اليابس. لكن حبّ الوالدين؟ ذلك شيء آخر.. هو كالنجم الذي لا يُطفئه بعد المسافات، وكالشجرة التي لا تقتلعها الأعاصير. قد تغيب الأجساد، لكنّ الحبّ يبقى كالطيف الحنون، يُلامسنا في صمت الليل، ويُظلّلنا في حرّ الظهيرة.
فلا تظلم القلوب التي لا تملك أن تكون أنهارًا، فتطلب من البشر أن يحبّوك كحبّ أمك. اقبل منهم ما يمنحونه بصدق، وامْتَنَّ لدفئهم الذي وإن كان محدودًا، فهو شعاعٌ يستحقّ الامتنان. لكن لا تُحمّلهم عبء الفراغ الذي لا يملؤه إلا ذلك الحب الأزليّ الذي يكمن في أعماقنا. احتفظ بذلك الركن المقدس في قلبك لأمك وأبيك، سواء كانوا حاضرين بين يديك، أو تحت الثرى، أو في رحاب الذكرى. هم وحدهم من يمتلكون مفتاح إشباع ذلك الجوع الروحي العميق الذي لا يرويه سواهم.
وأما البقية، فدعهم يحبّونك كما يحب البشر؛ بحذرٍ تارة، وباندفاعٍ تارة أخرى، وبنقصٍ غالبًا. فالحب، حتى وإن كان ناقصًا، يبقى بصيصًا من النور يستحق الشكر. وليس أروع من قلبٍ يعطي ما يستطيع، دون أن يتظاهر بامتلاك ما لا يملكه...
ولتسأل نفسك..ما هو أعظم درس تعلمته عن الحب الأبدي؟
التعليقات