بعد 240 سنة من ميلاده لم يعد سيمون بوليفار مجرد اسم لشخصية تاريخية بارزة، بل أصبح معلمًا يمكنك أن تقرأ اسمه الذي لا تغيب عنه الشمس؛ سواء كنت في قارته بالأرجنتين، أو في بوليفيا التي تحمل اسمه، أو تشيلي على إحدى محطات المترو، أو كولومبيا التي وزعت اسمه على عشرين بقعة من أراضيها – سواء كان اسما لإحدى ولاياتها التسع الأصلية، أو مدنا وأحياء، أو متنزهات وميادين، أو محطة حافلات، أو قمة جبل، بل ومسلسل تلفزيوني – وهو في كوبا اسم لسيجار شهير، وحديقة في كوستاريكا، ومقاطعة وميناء في الإكوادور، وحاضرة في السلفادور، ومقاطعة في البيرو، وقرية في أوروجواي.

أما في فنزويلا، فهو ملء العين والقلب معًا، فهو باسم البلاد الرسمي؛ جمهورية فنزويلا البوليفارية، وهو اسم ولاية، واسم عاصمتها، واسم جسر على الحدود مع كولومبيا، وعدا ثلاثة تماثيل له في كاراكاس العاصمة، فهناك صورته على جداريات لا تحصى، حتى المسرح الذي قرأنا عليه الشعر يحمل اسم سيمون بوليفار، مثل السد الذي يقع على نهر كاروني باسم بوليفار. والمطار الذي استقبلنا فيه وودعنا منه الأصدقاء يحمل اسم المحرر الكبير، بل إن لقب (المحرر)، يشير إليه، ويأتي دليلا على دوره في تاريخ أمريكا الجنوبية والعالم.

وكما في أستراليا وبلجيكا والويات المتحدة، جئتُ من بلد تضع اسمه في واحد من أجمل ميادينها بحي جاردن سيتي، يتوسطه تمثاله، وهو ميدان سيمون بوليفار، في المسافة بين ميدان التحرير وكورنيش النيل، بالقاهرة، المفتتح يوم 11 فبراير 1979، ليتصدره التمثال الشامخ بطول 2.3 متر، وبوزن نصف طن من البرونز، الذي نحته الفنان الفنزويلي كارملو تباكو، وصاغ قاعدته الفنان مانويل بلانكو، آتيا من فنزويلا، ليقف شاهدا على علاقة مصر القوية ببلده الأم.
ناصر وبوليفار
لا يُدهش أحد من التقارب بين البلدين، فقد ارتبطا بزعيمي تحرر؛ إذ شهدت حقبة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تقاربا بالأفكار الثورية بين مصر ودول أمريكا الجنوبية، ومثلما أقامت تمثالا لعبد الناصر في كاراكاس، وضع تمثال بولبفر هنا إيمانًا وتكريمًا لأفكار سيمون بوليفار أحدُ أيقونات الثورة التي قامت ضد الاستعمار الإسباني في أمريكا الجنوبية، ليحرر كولومبيا، وفنزويلا، والأكوادور، والبيرو، وبوليفيا.

الليبرتادور
سيمون بوليفار، المحرر أو الليبرتادور بالأسبانية، (من مواليد 24 يوليو 1783، كاراكاس، فنزويلا،غرناطة الجديدة [الآن في فنزويلا] - توفي في 17 ديسمبر 1830، بالقرب من سانتا مارتا، كولومبيا)، هو جندي فنزويلي ورجل دولة قاد ثورات ضد الحكم الإسباني في ولاية غرناطة الجديدة. كان رئيسًا لكولومبيا الكبرى (1819-1830) و بيرو (1823-1826).
قبل السفر، حين زرت السفارة الفنزويلية في القاهرة، لختم تأشيرتي، استقبلني سعادة السفير ويلمر باريينتوس وقادني إلى لوحتين في مدخل السفارة، بالمعادي، لأرى عبد الناصر وجها لوجه مع سيمون بوليفار.

ولد بوليفار، وهو ابن أرستقراطي فنزويلي من أصل إسباني، وارثا الثروة والمكانة، بعد أن توفي والده عندما كان الولد يبلغ من العمر ثلاث سنوات، وتوفيت والدته بعد ذلك بست سنوات، ليدير عمه ميراثه ويوفر له الأوصياء. فكان أحد معلميه سيمون رودريجيز، صاحب تأثير عميق ودائم عليه. كان رودريجيز، أحد تلاميذ جان جاك روسو، فقاد بوليفار إلى عالم الفكر الليبرالي في القرن الثامن عشر.
وصلنا في جولتنا الصباحية بقلب كاراكاس إلى تلك المدرسة الأولى التي كانت بيتا احتضن فيه سيمون رودريجيز محررنا وقدم له فصولا تعليمية. رأينا برامج تعلم الرسم والرقص والموسيقى، مثلما رأينا صناديق لا تزال تضم قنينات محفوظة تعود لذلك المنزل الأول، وطاقم جلوس، ورسوما.
في سن السادسة عشر أرسل بوليفار إلى أوروبا لإكمال تعليمه. فعاش في إسبانيا ثلاث سنوات، وفي عام 1801 تزوج ابنة أحد النبلاء الإسبان، وعاد معها إلى كاراكاس. توفيت العروس الشابة بسبب الحمى الصفراء بعد أقل من عام على زواجهما. اعتقد بوليفار أن موتها المأساوي كان السبب وراء توليه مهنة سياسية عندما كان لا يزال شابًا.
في عام 1804، عندما كان نابليون يقترب من ذروة مسيرته، عاد بوليفار إلى أوروبا. في باريس، بتوجيه متجدد من صديقه ومعلمه رودريجيز، انغمس في كتابات المفكرين العقلانيين الأوروبيين مثل جون لوك، وتوماس هوبز، وجورج لويس لوكلير، وكونت دي بوفون، وجان لو روند دالمبرت، وكذلك فولتير و مونسكية و روسو.
كان للاثنين الأخيرين التأثير الأعمق على حياته السياسية، لكن فولتير صبغ فلسفته في الحياة. التقى في باريس بالعالم الألماني ألكسندر فون همبولت، الذي عاد لتوه من رحلته عبر أمريكا اللاتينية وأخبر بوليفار ياعتقاده أن المستعمرات الإسبانية جاهزة للاستقلال. تجذرت هذه الفكرة في خيال بوليفار، وفي رحلة إلى روما مع رودريجيز، حيث وقفا على مرتفعات مونتي ساكرو، تعهد بتحرير بلاده.
في أيامه الأخيرة، أصر دائمًا على أن لقب "المحرر" أعلى من أي لقب آخر، وأنه لن يستبدله بلقب ملك أو إمبراطور. في عام 1807 عاد إلى فنزويلا عن طريق الولايات المتحدة، وزار المدن الشرقية. وانطلقت حركة استقلال أمريكا اللاتينية بعد عام من عودة بوليفار، إذ تسبب غزو نابليون لإسبانيا في زعزعة استقرار السلطة الإسبانية. كما فشل نابليون تمامًا في محاولته لكسب دعم المستعمرات الإسبانية، التي ادعت الحق في ترشيح مسؤوليها، اقتداءًا بالبلد الأم.

في 19 أبريل 1810، حُرم الحاكم الإسباني رسميًا من سلطاته وطُرد من فنزويلا. تولى المجلس العسكري زمام الأمور. وللحصول على الدعم، تم إرسال بوليفار في مهمة إلى لندن، حيث وصل في يوليو. كانت مهمته أن يشرح لإنجلترا محنة المستعمرة الثورية، والاعتراف بها، والحصول على السلاح والدعم. على الرغم من أنه فشل في مفاوضاته الرسمية، إلا أن إقامته كانت مثمرة من نواحٍ أخرى. وأتاحت له فرصة دراسة مؤسسات المملكة المتحدة التي ظلت بالنسبة له نماذج للحكمة السياسية والاستقرار. والأهم من ذلك، أنه عزز قضية الثورة من خلال إقناع الفنزويلي المنفي فرانسيسكو دي ميراندا، الذي حاول في عام 1806 تحرير بلاده بمفرده، بالعودة إلى كاراكاس وتولي قيادة حركة الاستقلال.
في مارس 1811، اجتمع المؤتمر الوطني في كاراكاس لصياغة دستور. بوليفار، وإن لم يكن مندوبًا، فقد ألقى بنفسه في النقاش الذي أثار البلاد. أعلن في أول خطاب عام في حياته المهنية، "دعونا نضع حجر الأساس للحرية الوطنية دون خوف. التردد هو الهلاك ". بعد مداولات طويلة، أعلن المجلس الوطني استقلال فنزويلا في 5 يوليو 1811.
كنا وسط الاحتفالات بمناسبة مرور 200 عام على معركة كارابوبو التي أدت إلى استقلال فنزويلا، وهي المعركة التي تكتسب أهمية تاريخية وثقافية كبيرة لدى الشعب الفنزويلي، إذ ضمنت استقلال البلاد وانتهاء الهيمنة الإسبانية.

ها أنذا في فنزويلا، ورقم 200 بلون العلم يطوف بالبلاد، وقد حضرت مشاركا في الدورة 17 من مهرجانها للشعر العالمي، وكذلك المؤتمر العالمي الأول لحركة الشعر العالمية، الذي بدأناه في ميديين الكولومبية، بعد أن شاركنا في الدورة 33 لمهرجانها الدولي للشعر. حرص سفيرنا المصري كريم أمين على الترحيب بي في مقر إقامة الشعراء، بصحبة نائبه الدبلوماسي محمد عبد الوهاب، كما التقيا الوفد الأفريقي الذي انتخب ممثلا لشعراء القارة، وحضرا الأمسية التي ألقيت فيها قصائدي على مسرح بوليفار، مثلما شهدا الختام.
في ختام الرحلة، بحثت عن تذكار بوليفاري، صحيح أن هناك صورتي أقرأ الشعر على مسرح بوليفار، وكذلك أمام تمثاله، وقرب إحدى جدارياته، كما أنني التقيت أكثر من ممثل يجسد بوليفار في مناسبات ثقافية، وصافحنه في المتحف، لكنني فتنت بصورته على العملة البوليفارية، فاشترطت على بائع الشاحن الكهربائي لهاتفي أن يعطيني باقي الدولارات أوراق ببنكنوت بوليفارية، وأهدتني شاعرة فنزويلية من أصل لبناني ورقة أخرى، وهكذا ودعت أرض المحرر، وأنا أحمله في جيبي، لينضم إلى تذكارات شخصيات استثنائية.
التعليقات