الخمس دقائق الأخيرة قبل الاستسلام إلى ملاذ العقل الأول والأخير: النوم. خمس دقائق دسمة بخيبات الماضي الحاقنة، ومآسي الحاضر اللاسعة، ومخاوف المستقبل التي تأتي ختامًا لتقضي على ما تبقى في النفس من أمل. وإن كانت كافية لذلك، فإن تأثير الماضي والحاضر لحظي مقارنة بزوبعة المستقبل، خاصة على شباب الجيل الحالي.
لكل قسم دهاليز. بمجرد أن تبدأ في التنقل بين مفترقاتها، تُسلب من سريرك الدافئ تحت تأثير يشبه الجاثوم، بنفس محبوس وألم يجوب الجسد، وكأن ما حلّ عليه أكبر من احتماله. دهليز ترى فيه صداقاتك التي انتهت بخيبات مؤلمة، ودهليز تستعرض فيه الفرص التي لو انتهزتها منذ طفولتك، لكنت اليوم رائدًا في مجالك، وهي تسخر منك بلسان حالها. ودهليز يبرز علاقاتك العائلية، المشؤومة منها والمحمودة، ودهليز يجسّد رغباتك المكبوتة التي لم تجرؤ يومًا على الاعتراف بها، ودهليز يجمع أحلامك التي عفا عليها الزمن. هذا نصيب الماضي.
ثم تبدأ دهاليز الحاضر، وهي أشد وطأة. ترى تفاصيل الأمس القريب واليوم، وتكمن صعوبة دهاليز الحاضر في أنها ليست مجرد صور وذكريات؛ بل تفاصيل محفوفة بمشاعر حية تزيد من ثقلها على النفس. هناك دهاليز لكل قرار مصيري تحاول اتخاذه. إن اخترت اليمين، سلكت طريقًا، وإن اخترت اليسار، كان لك طريق مختلف تمامًا.
وما إن تنتهي من كل هذا، تجد نفسك متخشبًا أمام دهاليز المستقبل، التي تتصدر المشهد في قدرتها على خلخلة ما تبقى من اتزان النفس. صعوبتها تنبع من غموضها. لا تفاصيل واضحة. تحاول التوغل أكثر وأكثر، لكنها لا تزداد إلا ظلامًا. ترى أن لفعلك هذا أثرًا، ولفعلك ذاك أثرًا آخر. تسأل: أي الأفعال أصح؟ فلا تجد إجابة. لا سبيل لمعرفة التصرف الصحيح إلا بمعرفة النتيجة يقينًا، وهذا مستحيل؛ فلا يعلم الغيب إلا خالقه.
ولكن، لأن لكل ابتلاء نفعًا، توجد متعة عظيمة في تلك الرحلة اليومية. إنها فرصة لرؤية إصدارات مختلفة من نفسك البشرية. فأنت في الماضي لست أنت اليوم، ولن تبقى على حالك في المستقبل. يمكن لهذه الرحلة أن تكون بابًا للتأمل والتعبد لله سبحانه وتعالى، إذ ترى فيها صغر النفس البشرية وهشاشتها. كل ما يصنع النفس من مبادئ وقيم ومعتقدات، تراه يقينًا اليوم، وقد يصبح غدًا سرابًا، ليحل محله النقيض.
وبعد مرور الخمس دقائق على خير أو شر، تنظر إلى الساعة لتجد أن ساعة أو ساعتين أو حتى ثلاثًا قد مرّت، في الحالات المستعصية. لكن هذا لا يدعو إلى الشك أو الحيرة. ألا تعلم أن الأزمنة لها مواقيت مختلفة؟ اليوم يمر أسرع من الأمس، والغد سيمضي في لحظة، بأربع وعشرين ساعة كاملات دون انتقاص. هذه هي الدنيا، وهذه هي النفس البشرية التي نحاول جاهدين فك ألغازها، مع يقيننا الدائم بأن ليس لهذا سبيل.
فالدعاء الآن للتخلص من تلك الخمس دقائق قد يكون ببساطة تلك الدهاليز، حتى تنتهي فعلًا في خمس دقائق، أو بزيادة تعقيدها أكثر فأكثر، حتى تعجز النفس عن حلها، فلا تجد حلًا سوى نوم هنيء بلا خوض في دهاليز الفكر.
التعليقات