ينحتُ مخرج الأفلام السياسية كوستا غافرس "Costa-Gavras" مجدَه الفنّي كمهندس سردياتٍ للمقاومة الاجتماعية السياسية، فالشاشة عنده ساحة نزال بين الأنظمة القمعية التي تسعى إلى تشويه الحقيقة وتطويعها لإحكام قبضتها، والأفراد الذين يقفون للدفاع عنها في تحد للظلم، ورفض للخضوع، حيثُ تَقبضُ أفلامُه على نبض الواقع، وتفكّك آليات القمع بجرأة لا تعرف المواربة. تفتح سينماه نافذةً على الذاكرة الجمعية، تعرّي الأكاذيب، وتحفّز الوعي الجمعي، داعية الثوار والصامتين على حد سواء للاعتراض على الاستبداد.
كوستا لا يقدم للمتفرج قصصًا دراميّة وحسب، بل يضعُه أمام صورة تفتحُ له أفقًا جديدًا لفهم هويته السياسية والاجتماعية، محفزًا إيّاه على إعادة التفكير في الواقع الذي يعيشه. أفلامه تخلق حالة من الوعي المستمر بأنَّ مقاومة القهر لا تأتي من عنف متبادل، بل من رفض الاستسلام للأوهام التي تفرضها الأنظمة. فهي مقاومة تتجسد في التفكير النقدي والرفض الفكري، وفي التمسك بالقيم الإنسانية وتحدي السّرديات المُضلّلة التي تروّجها السّلطة.
يغوص غافرس في فيلم (Z) عميقًا في البنية الخفية للأنظمة القمعية، تلك التي تحكم بالبروباغندا، وتصنعُ الأكاذيب كحقائقَ بديلة، بينما تُمعِنُ في سحق من يقف في وجهها دون رحمة.
يُعدّ هذا الفيلم الذي أُنتج عام 1969 والحاصل على جائزة الأوسكار كأفضل فيلمٍ أجنبي، حجر الزاوية في السينما السياسية التي تمزج بين السَّرد الفنّي والتحليل الاجتماعيّ السياسيّ. كتبه السيناريست الإسباني خورخي سيمبرون Jorge Semprún استنادًا إلى كتاب فاسيليس فاسيليكوس Vassilis Vassilikos ، يتناول أحداثًا مستوحاة من اغتيال المرشح السياسي اليوناني غريغوريس لامبراكيس Grigoris Lambrakis الذي قوبلت معارضته للمجلس العسكري الحاكم في 1963 بالقتل. الأبطال الذين قدموا هذا العمل هم إيف مونتان" Yves Montand، الذي قام بدور الضحية السياسية، و"جان لويس ترينتغنان" Jean-Louis Trintignant " وفرانسوا بيرييه " Francois Perier" تشارلز دينير " Charles Denner" وآخرون.
تدور أحداث فيلم Z في دولة غير مسمّاة، ويتخذ موقعًا زمنيًا وجغرافيًا غير محددين، ليبتعد في هذا الخيار عن تقديم قصة وطنية بعينها، ويحوّل الصراع إلى قضية إنسانيّة شاملة. يعكس الفيلم حال العديد من الأنظمة الديكتاتورية التي مزّقتها الحروب الباردة، حيث أراد كوستا غافراس، من خلال هذا الطرح الرمزي، تسليط الضوء على الحالة السياسية التي سادت تلك الحقبة الزمنية، المليئة بالصراعات السياسية والاضطرابات الداخلية.
هذا النهج لم يكن مجرد خيار سرديّ لـ غافراس، بل أداة ذكية تفتح آفاق الفيلم على نطاق عالمي أوسع، ليصبح عدسة تنفذ بعمق إلى جوهر القمع الشمولي في كلّ دولة بوليسية تعيش تحت وطأة النفوذ الدولي، سواء كان أمريكيًا أو روسيّا كاشفًا كيف يمكن لأيّة دولة، مهما كانت هويتها الجغرافية، أن تتحوّل إلى مسرحٍ لتجربة إنسانية مشتركة تتكرر بصور مختلفة، لكنّها تنبع من جذور سياسية وأيديولوجية واحدة ومنطق دكتاتوري واحد.
يبدأ الفيلم بلوحةٍ سينمائيّة مكثّفة، ترسم ملامحَ مدينةٍ تختنق تحت وطأة تناقضاتها، حيثُ تتشابك مظاهر الحياة اليومية مع ظلال الخوف والقمع السياسي. تتوالى المَشاهد في سردٍ محكم، يكشف تدريجيًا عن فجوة مُتّسعة بين الشعب الذي يئنُّ تحت وطأة الظلم، وسلطة تُحكم قبضتها عبر أدوات الترهيب والتلاعب.
يبني الفيلم توتره بعناية فائقة، كاشفًا عن سياسات النظام التي تتدرج في قمعها بدءًا من حظر التجمعات السلمية، إلى تحويل الدين والمؤسسات الرسمية إلى أدوات للسيطرة، تُوظَّف بمهارة وذكاء لإضفاء شرعية مزيفة على القمع.
تتخطّى شخصيات الفيلم حدودَ الفردية لتصبح تمثيلات رمزية عميقة للصراع الاجتماعي والسياسي. السياسي اليساري الذي يؤدي دوره إيف مونتان، يتجسّد كصوت الضمير الجمعي وأيقونة الأمل المتمرد في وجه الطغيان. على الجانب الآخر يظهر النظام الحاكم ككيان مترسخ في الفساد والاستبداد، لا يتوانى عن سحق أيّة معارضة بوسائل وحشية. بذلك، تتحول المدينة إلى ميدان صراع محتدم بين حلم التغيير وأغلال القهر المستدام.
غياب الأسماء في فيلم Z عن معظم الشخصيات يضفي عليها طابعًا كونيًّا يتخطّى الفردية، ليجعلها تمثيلًا جوهريًا لقوى إنسانية متصارعة؛ فالشخصية السياسية اليسارية تجسد الأمل وروح المقاومة، بينما يتجلى النظام ككيان غارق في الفساد والقمع. هذا التجريد لا يمحو الهوية، بل يُعمّقها ويعيد تشكيلها، ويمنحها أبعادًا أكثر شمولية، محوّلًا القصة إلى خطاب عالمي عن الصراع الأبدي بين الحرية والاستبداد. إنه تجسيد لعبثية السلطة التي تسلب الأفراد أسماءهم وهوياتهم، وتحولهم لمجرّد أرقام في محاولة منها لإلغاء وجودهم، لكن هذا الفراغ يمنحُ المُشاهد مساحةً لإسقاط رؤيته وتجربته الذاتية على الشخصيات، ممّا يعمّق الارتباط العاطفي والفكري بمأساة القهر وأمل النضال. وفي الوقت ذاته يبرزُ دورُ الفرد، الهش والجسور معًا، الذي يرفض الصمت ويختار أن يكون شاهدًا، حتى وإن كانت شهادته طريقًا إلى الموت. شخصيات غافراس لا تُقدَّم كأبطال خارقين، بل كرموز إنسانية مأزومة، تفهم أن الحقيقة ليست خيارًا، بل مسؤولية تتطلب مواجهة قاسية مع قوى تتقن اللعب في الظلال.
يُعدّ مشهد اغتيال السياسي (إيف مونتان) ذروة السّرد وأبرز لحظات التحوّل الدرامي، حيثُ يكشف غافراس ببراعة عن التداخل المظلم بين العنف المؤسسي والمأساة الفردية. الإخراج يتّسم بالصرامة والوضوح، فالسيارة المستخدمة في الجريمة لا تظهر كوسيلة قتل فحسب، بل كرمز مباشر للآلة القمعية التي تدهس كل من يقفُ في طريقها.
الإيقاع السريع للمشهد، عبر لقطاتٍ قصيرة ومكثّفة، يعكس الفوضى والارتباك الذي يعقب الجريمة، ليضعَ المُشاهدَ في قلب الحدث، يشعرُ بوطأته وكأنَّه جزءٌ من الواقعة نفسها.. هذه البنية البصريَّة تستعرض الجريمة، وتكشف عن العبثية العميقة للعنف السياسي.
في المقابل، يتحول التحقيق القضائي بقيادة القاضي إلى معركةٍ أخلاقيّة، حيثُ يؤدي جان لوي ترينتيغنانت دوره بواقعية مشحونة بالتوتر الداخلي، مما يُبرز تأثير التزامه بالنزاهة في سياق نظامٍ فاسد. الفيلم يطرح تساؤلًا نقديًا حول قدرة التحقيق على تفكيك منظومة القمع، حينما يتشبّثُ صاحبه بالمبادئ الأخلاقية ساعيًا لتحقيق العدالة وسط بيئة تَطغى عليها السياسات الاستبدادية.
هذا المشهد لا يُقدّم الاغتيال كفعلٍ معزول، بل كنقطة محورية تربط بين البنية القمعية للنظام ومعاناة الفرد، مُبرزًا كيف يمكن للعدالة أن تكون السلاح الوحيد في وجه آلة القمع. ويترك المشاهد أمام سؤال أخلاقي عميق: إلى أي مدى يمكن للنزاهة أن تصمُدَ في وجه العنف المنظم؟
البناء الدرامي يزداد تشويقًا مع كلّ اعترافٍ جديد لكبار الضباط المتورطين في الجريمة مما يوضح أنّ العدالة تتطلب مواجهة مستمرة ضد التعتيم، يسلّط الفيلم الضوءَ على البنية المؤسساتية التي تحتفظ بالسلطة من خلال التواطؤ والفساد المتشابك بين الأجهزة العسكرية والسياسية. على الرغم من أن التحقيق يكشف عن المتورطين ويُعرّي أركان النظام الفاسد، إلا أن النهاية تُخْفِق في تجسيد أيّ أمل حقيقي في العدالة. فالسلطة لا تنهار في لحظة، بل تتكيّف وتُعيد ترتيب نفسها، مُعزِّزَةً من هيمنتها في غياب الوعي الجماعي القوي والمقاومة الفاعلة.
في قاعة المحكمة، تتخذُ الكاميرا دور الشاهد الحي على الفساد، مما يتيحُ للمشاهد الانخراط في عملية كشف الزيف المؤسسي. من خلال الإضاءة الخافتة واللقطات القريبة، يبني غافراس توترًا ينمّ عن هشاشة العدالة في مواجهة ضغوط النظام. ومع كلّ ما يبدو من كشف للفساد واتهام للمسؤولين، يظهرُ أحد الأتباع لينقل للأرملة إيرين باباس بشارة تحقق العدالة، كأن القضاء سيأخذ مجراه ويُسقط النظام. لكن رد الفعل الصامت لباباس والذي يوحي بيأس عميق يفضح الفجوة بين الأمل المزعوم والحقيقة المرّة، لا انتصار في هذه العدالة الموعودة.
غافراس هنا لا يقدم لنا خاتمة معبّرة عن سقوط النظام، بل يُظهر كيف يُعاد إنتاج القمع والفساد باستمرار. هي صورة قاتمة عن ضياع العدالة.
يمزج الفيلم بين الواقعية والرمزية بطريقة حاذقة، حيثُ يتناول القضايا السياسية بأسلوب يحاكي الأفلام البوليسية المشوقة. يتلاعب كوستا غافراس ببراعة بالأبعاد الواقعية لتفاصيل التحقيق والصراع السياسي، بينما يقدّم في الوقت ذاته رموزًا معقدة تعكس طبيعة القمع والفساد في النظام. من خلال تقنيات مونتاج سريعة، يعكس غافراس التوتر المتصاعد في الأحداث، مُحاكيًا اللحظات الحاسمة بآلية تلاحق لقطاتها، ما يزيد من إحساس المشاهد بالعجلة والتهديد الداهم.
أمّا الموسيقى التصويرية التي ألّفها ميكيس ثيودوراكيس، فقد كانت عاملاً أساسيًا في تشكيل الإيقاع العاطفي للفيلم. الأنغام الدرامية العميقة التي تنساب بتصاعد مع الأحداث كانت بمثابة محفّزٍ عاطفيٍّ مكمّلٍ للبنية السينمائية، مُضيفةً بذلك عمقًا وتوترًا متصاعدًا، ومُعزِّزَةً للأجواء المشحونة التي تحيط بشخصيات الفيلم وأفعالهم. هذا المزيج بين الإيقاع السريع والموسيقى الثرية يُبقي المشاهد في حالة ترقب، ويُعزز من التأثير العاطفي للفيلم ككل.
إخراج كوستا غافراس يتميز بديناميكية استثنائية، حيث يترجم الفوضى السياسية إلى لغة بصرية مشحونة بالقلق. الحركة السريعة للكاميرا والمونتاج المتقطع يعكسان ارتباك النظام واهتزازه أمام حقيقة تتسرب من بين أصابعه، ويكشفان عن حالة اضطراب عميقة في داخل مؤسسات السلطة. تسلسل التحقيق الذي يكشف خيوط المؤامرة يُعد درسًا في كيفية بناء التوتر دون الوقوع في فخ الميلودراما؛ فالمخرج يعتمد على أسلوب سردي هادئ، يُركّز على التفاصيل الدقيقة التي تتراكم وتؤدي إلى تفكيك النظام ببطء، مما يجعل كشف الحقيقة لحظة متصاعدة دون مبالغاتٍ دراميّة، بل عبر تتبع مُتَمهّل للوقائع الصارخة.
من اللافت أن فرنسا، المنتج الرسمي للفيلم، رفضت تصويره على أراضيها وأبقته محظورًا لسنوات عديدة بسبب رسالته الجريئة. في مواجهة هذا الرفض، وجد المخرج كوستا غافراس في الجزائر، التي كانت قد خرجت حديثًا من ثورة تحررية ضد الاستعمار الفرنسي، شريكًا مثاليًا لتحقيق مشروعه. شكّل اختيار الجزائر موقعًا للتصوير قرارًا رمزيًا بامتياز، إذ مثّلت البلد الذي انتزع حريته من قبضة الاستعمار منصة مثالية لسرد قصة تُدين الأنظمة الديكتاتورية. وعلى الرغم من اختلاف المناظر الطبيعية، كانت الجزائر بديلاً ناجحًا عن أثينا أو باريس.
نجح غافراس من خلال فيلمه (Z) في إيصال صوت بلده الأصلي، اليونان، إلى العالم، مسلطًا الضوء على تجربة الستينيات التي عايشتها بلاده، وتجارب مماثلة عاشتها دول أخرى تحت وطأة القمع السياسي، فتحولت سينماه لمشرط فنيّ حاد، نكأ الجراح السياسية والاجتماعية، وغاص فيها، شارحًا بمهارة كيف تُستغل المؤسسات لتتحوّل إلى أدوات قمع وهيمنة، وكيف تُمْسخُ العدالة لتصبح مجرد أكذوبة. من خلال السرد المتقن والرمزية الموحية كشف غافراس الآليات التي يُعاد بها تشكيل الحقيقة لتتلاءم مع احتياجات الأنظمة المستبدة، عاكسًا بذلك رؤية سينمائية تتخطّى اللحظة الراهنة لتخاطب كل الأزمنة. وتفضحُ هشاشة الديمقراطيات المزعومة.
التعليقات