لا تستطيع بعد قراءة نص "نسيان" للشاعر والناقد السعودي سعيد السريحي، إلا أن تبحر مرات أخرى إليه، فالنص يحرضك على القراءة المتفحصة والدقيقة والمتجاوزة أيضا لأشياء أو مفاهيم، تعارف عليها عدد كبير من النقاد والشعراء. ولئن كنا غير معترفين حتى الآن بما يسمى "قصيدة النثر" باعتبارها امتدادًا لقصيدة الشعر التفعيلي، كما يذهب إلى ذلك معظم من يكتبون هذا اللون الأدبي، إلا أننا أمام نص "نسيان" للسريحي لا نستطيع أن نغضَّ الطرف عن لون جديد من إبداعاتنا بدأ يسري أو يتسلل إلى حياتنا الأدبية.
إنك عندما تقرأ نص "نسيان" ثم تعاود قراءته لا تستطيع أن تقف مكتوف الأيدي، لأنه منذ البداية يضعك أمام قضية شعرية لا بد أن يكون لك رأي فيها كقارئ أو كمتذوق للشعر والأدب. يقول السريحي:
إنني أكتبُ قصيدة
يبدأ الخليل في تقطيعها ليعرف
إلى أي بحر تنتمي
ويعلن الماغوط: إنها انتصارٌ لقصيدة النثر
أما مالارميه فسيهتف
كيف جمعت الشعر
في كلمة واحدة
ووحده رامبو
سوف يجلس تحت شجرة بن في هرر صامتًا
يراقب ألوان الطيف
وهي تتشكَّلُ
من أحرفها الخمسة.
يحتوي النص على أربعة عشر مقطعًا تدور كلها حول "نسيان"، فمن هو هذا "النسيان"، أو من هي هذه "النسيان"؟ أحيانا تدل الضمائر على أن "نسيان" مذكر:
يقولون .. تنازعته الجن والإنس قديما
ثم اتفقوا:
يتعاقبون عليه
جنٌ بالليل وإنسٌ بالنهار.
وأحيانا تدل الضمائر على أن "نسيان" مؤنث:
ويقولون: كانت نسيان قديمًا صحراء
تاه بها ذات يوم أحدُ الصالحين.
وأحيانًا ثالثة لا تكون هناك دلالة على التذكير أو التأنيث، فيأتي المقطع محايدًا.
عمومًا أنا لا أعتقد أن السريحي يريد أن يلعب بلفظة "نسيان" على حسب هواه، ولا أعتقد أيضًا أنه يقصد الفعل القاموسي: نسى / ينسى / نسيانًا، ذلك أننا أمام نص غير تقليدي، ولكنني أذهب إلى أن السريحي يريد أن يصنع أسطورة جديدة من بنات أفكاره يختصر من خلالها رؤاه الشعرية مستفيدًا في الوقت نفسه من قراءاته وتجاربه الإبداعية السابقة، ولكن على أية حال فإنه ستبقى في مخيلتنا ظلال معجمية أو قاموسية لاسم "نسيان"، وسوف تتساقط هذه الظلال على مقاطع النص كلما سنحت الفرصة لذلك.
فهل "النسيان" بمعناه القاموسي تحوَّل إلى أسطورة عند السريحي؟ أو بمعنى آخر، هل حاول السريحي أن يؤسطر النسيان؟
يقول الشاعر:
لستُ أحاول أن أُدخل نسيان
إلى الأسطورة
إنني استأذنُ للدخول
إلى أسطورة النسيان.
حقًّا إنه نص مراوغ منذ البداية، ولكنك لا تستطيع إلا أن تحبَّه رغم أنه نثري يحمل في بعض الأحيان إيقاعات خليلية:
نخل العالم كله
حين ينضج طلعه
يتساقط نحو الأرض
إلا نخل نسيان
فحين ينضج طلعه
يتساقط نحو السماء.
يذكر أن سعيد مصلح سعيد السريحي الحربي، من جيل روَّاد الأدب في المملكة العربية السعودية، ومن أقطاب الصحافة فيها. من مؤلفاته: "غواية الاسم"؛ "سيرة القهوة وخطاب التحريم"، و"الرويس"، و"الكتابة خارج الأقواس"، "لكِ النور"، "القصيدة السوداء: شعرية السحر والشعوذة، ""ذُباب الوقت: تدوينات على جدار الحجر، "كي لا نصحو ثانية: تفكيك خطاب الصحوة وآليات الهيمنة على المجتمع". كما أن لهُ زاوية يومية في جريدة عكاظ بعنوان "ولكم الرأي".
التعليقات