هل تساءلت يومًا كيف تميّز بين الوجه الحقيقي للإنسان وبين القناع الذي يرتديه حين يراه الناس؟
في عالم أصبح فيه الأداء الاجتماعي أكثر أهمية من القيمة الحقيقية، لم يعد شكل الإنسان أو طريقته في الحديث معيارًا كافيًا للحكم عليه. فالكثيرون يُتقنون "فنّ الظهور"، لكن القليل فقط يُتقنون فنّ الثبات الأخلاقي حين يغيب الرقيب.
فالحقيقة – كما هي دائمًا – لا تُقيم في المعارض ولا في الاجتماعات ولا في السجادات الحمراء، بل في الزوايا الخفيّة، في اللحظات العابرة، في المواقف التي لا تضيئها الكاميرات.
فإذا أردت أن تعرف حقيقة إنسان، فلا تنظر إلى وجهه في المرآة العامة، بل راقبه حين يظن أنه وحده، حين لا ينتظر مقابلًا، حين لا تكون هناك مصلحة تُرجى، ولا سلطة تُخشى، ولا عائد متوقّع.
اختبره في موضع القوة؛ حين يملك أن يُعاقب أو يعفو، أن يحتقر أو يَعدِل، أن يعلو أو يتواضع. انظر كيف يتحدث إلى من هو دونه في المنصب أو الجاه أو المال. هل يتغيّر صوته؟ هل ينقلب لسانه سوطًا؟ هل يراهم بشرًا أم أدوات؟ تلك اللحظة وحدها كفيلة بأن تكشف جوهره، مهما كان بريقه في غيرها من اللحظات لامعًا.
فالذي يتأنّق في الحديث مع أصحاب النفوذ، ويتحوّل إلى جلاد مع البسطاء، لا يُعاني من "سوء الذوق"، بل من اختلال في إنسانيته. والذي يُحسن الخطاب أمام العظماء، ويغيب عن ذهنه الأدب حين يتعامل مع عامل النظافة أو البائع الجائل، لا يملك قلبًا متزنًا، بل عقلًا يُجيد الحسابات، لا العلاقات.
ليس الأدب رتبة اجتماعية، بل هو جوهر تربية، وميزان ثبات. والإنسان الحقيقي لا يتغير ذوقه بتغير الجيوب، ولا يتلوّن خلقه بتبدّل المقاعد. هو هو، في حضرة الغفير كما في حضرة الباشا. يحترم الضعيف كما يحترم القوي، ويعطي للناس قدرًا لا ينقصه الفقر، ولا تزيده الثروة.
في علم النفس، لا يُقاس الإنسان بسلوكه في المواقف الرسمية، بل في لحظات الفعل التلقائي، حيث لا وقت للتمثيل، ولا مساحة للتحضير. السلوك غير المُراقَب، هو الامتحان الحقيقي للنية، وهو المؤشر الأصدق على طبقات الوعي والسلوك.
ومن أكثر ما يكشف معادن الناس: طريقتهم في التعامل مع من لا يملكون شيئًا. من لا يستطيع أن يقدم لك نفعًا، ولا يُخشى شرّه، ولا يُرجى خيره. فإن رأيت إنسانًا يوقّر هؤلاء، يُحسن إليهم دون منّ، يُنصت لهم دون تكلّف، ويخاطبهم بوجهٍ طليق ولسانٍ عذب، فاعلم أنك أمام قلبٍ سليم.
الأصل في الإنسان أن يكون ثابتًا. لا يتجمّل حين يُراقَب، ولا يتوحّش حين يُطلق له العنان. والأصل في الأدب أن يُمارس مع الجميع، لا أن يُوزّع حسب الدرجات. أما من يُحسن إليك على قدر حاجته إليك، فذاك ليس محترمًا، بل تاجرًا متأنقًا.
فالناس لا تُقاس بما ترتديه، ولا بما تركبه، ولا بما تملكه من كلمات. بل بما تُخفيه في حضرة من لا يملكون لك شيئًا.
فالإنسان الحقيقي...
هو الذي يرى كل الناس ناسًا، لا درجات.
هو الذي لا تُبدّله الكاميرا، ولا تُرهبه المناصب.
التعليقات