يومًا بعد يوم، يتعاظم في أعماقي يقين راسخ بأن ما نُسميه "مصادفة" ليس سوى قصور في إدراكنا البشري المحدود. ففي هذا الكون الفسيح، حيث تتجلى عظمة الخالق في كل ذرة وكل نَفَس، لا مجال للعبث أو الفوضى. كل حركة تُسجَّل في ميزان الأزل، وكل كلمة تُنسج في خيوط الحكمة، وكل لقاء يُقدَّر في لحظته المرسومة بعناية إلهية.
نحسب حين نخطو خارج أبوابنا أن خطواتنا لنا، وأن اختياراتنا وحدها تصنع المسار. غير أن الحقيقة الأعمق تكشف أن كل خطوة محسوبة، وكل منعطف مكتوب، وكل لحظة جزء من نسيج كوني دقيق تتداخل خيوطه بإحكام يفوق مداركنا.
الذين نلقاهم عند مفترقات الطريق، والكلمات التي تخرج من أفواهنا لتستقر في قلوب الغرباء، ليست أحداثًا عشوائية، بل مواقف مقصودة بقدرٍ محكم. هي أشبه بالموجات التي تبدو للعين العابرة متكسّرة بلا معنى، بينما هي في جوهرها خاضعة لقوانين المدّ والجزر التي لا تُرى.
إن اختزال هذه المشاهد في كلمة "صدفة" يسطّح فلسفة القدر، ويُفقر وعينا بجلال التدبير الإلهي. فالحق أننا لا نصادف أحدًا، بل نُستدعى إليهم ويُستدعون إلينا في اللحظة التي حُدِّدت قبل أن تُبصر أعيننا هذا الوجود، وكأن الكون بأسره يتآزر ليضعنا وجهًا لوجه في الوقت المناسب.
كم من مرة خرجنا لغاية بعينها، فإذا بنا نُحقق أثرًا آخر لم يكن في حسابنا، كأننا نُساق دون أن نشعر لنؤدي رسالة لم تكن مكتوبة في خططنا، لكنها منقوشة منذ الأزل في كتاب القدر. هنا تتجلى عظمة التدبير الإلهي: أن أفعالنا الصغيرة ليست صغيرة، وأن تفاصيلنا العابرة قد تحمل المعنى الأعمق في حياة آخرين.
إننا نعيش في كونٍ يتشابك فيه الخيط الإلهي مع أدق تفاصيل حياتنا. فلا مكان للمصادفات العمياء؛ فما نسميه "صدفة" ليس إلا ستارًا رقيقًا يخفي وراءه يدًا عليا تدبّر بحكمة مطلقة.
سبحان من دبّر فأحكم، وقدّر فأتقن، وجعل لكل شيء ميقاتًا لا يتقدم ولا يتأخر
التعليقات