كان حصول مشروع تطوير مدينة إسنا على جائزة "أغا خان" العالمية المرموقة بمنزلة دعوة للانتباه لمدينة إسنا العريقة ذات الكنوز المنسية. لم تكن تمثل تلك المدينة على جداول الرحلات السياحية سوى مدة زمنية لا تتجاوز بضع ساعات يقضيها السائح بين معبدها العظيم وجولة حرة سريعة في أسواقها لشراء هدايا تذكارية. لقد انبهر الجميع بمدى روعة تلك المدينة وتراثها الثري، وتَعرفنا على حجم الجهد المبذول لتطويرها والذي تجاوز مجرد الترميم المعماري التقليدي إلى مشروع متكامل يخدم المجتمع ويحافظ على بيئته المحلية ويحقق أهداف التنمية المستدامة.
لقد تحولت مدينة إسنا الواقعة على الضفة الغربية للنيل في محافظة الأقصر المصرية إلى مدينة ذات تراث عريق لكن في حُلّة عصرية. لطالما طغت شهرة معبدها المخصص للمعبود المصري القديم "خنوم" على بقية معالم المدينة الجميلة. تحتوى مدينة إسنا على عدد كبير من المباني العتيقة بزخارفها القبطية والإسلامية فضلًا عن سوق المدينة التاريخي. وتتميز المدينة أيضا بمساجدها الجميلة التي تعود لقرون سابقة وخاصة المسجد العمري بمئذنته الفريدة، كما تضم عددًا من الأديرة التاريخية. والمتأمل لتلك المدينة سيجد نفسه أمام بانوراما تأخذه في رحلة عبر الزمن إلى العصر المصري القديم والعصر اليوناني الروماني والعصر الإسلامي ثم العصر الحديث. لقد امتزجت تلك العصور داخل مدينة إسنا لتعطينا مدينة مبهرة ذات طابع حضاري استثنائي.
لا أستطيع أن أخفي إعجابي بمشروع إعادة إحياء إسنا التاريخية. لقد رأيت كيف أن المشروع لم يكن الغرض منه الحفاظ على التراث العمراني فقط بما يشمله ذلك من أعمال صيانة وتجديدات تقليدية. رصدت هذه المرة أن الأمر تجاوز الاهتمام بالحجر إلى التركيز على البشر، وتلك هي فلسفة الجائزة التي تهتم بالتنمية. لقد عمل المشروع على إحداث التناغم بين التراث المادي وغير المادي ليُظهر الجمال الحقيقي للمدينة. بالإضافة إلى ذلك كان التعاون بين الحكومة المصرية ممثلة في وزارة السياحة ومحافظة الأقصر مع إحدى المؤسسات غير الحكومية المهتمة بالتنمية وحفظ التراث، وبالشراكة مع إحدى وكالات التنمية الدولية أمرًا جديرًا بالإعجاب.
استطاع ذلك المشروع أن يعيد الحياة للحرف اليدوية التي يتميز بها أهل المدينة. تم التركيز على صناعات تراثية عريقة مثل الفخار والصدف والنسيج والمفروشات والملابس المحلية لسكان إسنا. كان لنساء إسنا نصيب كبير في هذا التطوير حيث حرص المشروع على مشاركتهم عن طريق تدريبهم على إنتاج وتصميم الملابس التراثية لسيدات المدينة. بالإضافة إلى ذلك كان افتتاح مطعم بإدارة نسائية من سيدات إسنا له بالغ الأثر في تسليط الضوء على المطبخ المحلي للمدينة والتعريف به للزوار. ومن مآثر ذلك المشروع أيضا هو تنمية الاقتصاد المحلي للمدينة بصورة متكاملة. جرى افتتاح ورشة للمشغولات الخشبية التراثية التي تشتهر بها المدينة، وترميم سوق القيسارية ومعصرة الزيت القديمة.
لقد كانت الجهود التي قام بها المشروع لتحسين تجربة السائح في رأيي هي إحدى أهم مميزات المشروع. قيل إن القائمين على المشروع في البداية لاحظوا عدم اهتمام أصحاب المتاجر السياحية "البازارات" وحتى أهل الحِرف اليديوية بجدوى المشروع، وأنه لن يعود عليهم بالنفع ولن يساعد في تنشيط حركة السياحة القادمة إلى المدينة. وبعدما رأي هؤلاء الشكل الجديد لبعض المتاجر وحدوث رواج سياحي في سوق المدينة بدأ الجميع يتعاون لانجاح التجربة الجديدة. وعندما شاهد أصحاب الحرف اليدوية أن منتجاتهم بعد تنفيذ المشروع صارت تُباع داخل مصر وخارجها زاد حرصهم على إتقانها والتوسع فيها لتلبية زيادة الطلب عليها، وراحت الورش تستقطب عددًا من شباب وفتيات المدينة لتعُلم تلك الحرف. لا شك أن المشروع قد استطاع أن يرفع الروح المعنوية لسكان المدينة ويشركهم في عملية التطوير، ويزيد من حرصهم واهتمامهم بمدينتهم وكيفية إظهارها بمظر لائق أمام الزوار، فضلًا عن زيادة وعيهم بأهمية تراثهم المحلي المادي وغير المادي وضرورة حمايته من الاندثار لكي تتوارثه الأجيال.
يبدو أننا نحتاج إلى أن نعيد اكتشاف مدينة إسنا من جديد. لقد عادت المدينة بحُلتها الجديدة إلى الخريطة الثقافية والسياحية. وبوجه عام أعتقد أن ذلك المشروع سيغير نظرتنا في المستقبل عند تطوير المدن التراثية الأخرى ليصبح التطوير بشكل أعمق. تحية لأصحاب فكرة ذلك المشروع وللقائمين على تنفيذه، وهم يستحقون بالفعل تلك الجائزة العالمية.
بـاحث في التــاريخ والتـراث
التعليقات