في زمنٍ تتسابق فيه الأمم لاستثمار مواردها الطبيعية، تتقدّم مصر بخطى واثقة لتستثمر موردها الأثمن "الحضارة"، فبعد افتتاح المتحف المصري الكبير، لم تعد الآثار المصرية مجرد شواهد على التاريخ، بل أصبحت أصولًا اقتصادية تحمل في طيّاتها فرصًا استثمارية واعدة، تتجاوز حدود السياحة التقليدية إلى مجالات الثقافة والإدارة والتنمية المستدامة.
إنّ فكرة استثمار التراث لا تعني المساس بقدسيته أو تحويله إلى سلعة تجارية، بل تعني توظيفه بوعي قانوني ومؤسسي ليكون عنصرًا فعّالًا في الاقتصاد القومي لمصر، وقد أدركت الدولة المصرية هذه المعادلة الدقيقة بين الحماية والاستثمار، فعملت على بناء منظومة تشريعية توازن بين الطرفين، وتفتح الباب لشراكات متنوّعة في إطار يحترم التاريخ ويخدم المستقبل.
الإطار القانوني: حماية بقدر ما هو تمكين
أقرّ قانون حماية الآثار المصري رقم 117 لسنة 1983 – وتعديلاته – قاعدة جوهرية مفادها أن الآثار ملكٌ للدولة لا يجوز التصرف فيها أو استغلالها إلا وفقًا لضوابط محددة، لكنّ المشرّع لم يغلق الباب أمام الاستثمار المنظّم، بل أتاح لمجلس الوزراء – عبر قرارات مدروسة – أن يجيز التعاقد مع جهات وطنية أو أجنبية لإدارة بعض المواقع الأثرية أو تقديم خدمات مكملة لها، بما لا يمسّ القيمة التاريخية أو الأصالة المعمارية.
ويأتي هنا دور قانون الاستثمار المصري رقم 72 لسنة 2017، الذي وسّع نطاق الأنشطة الاستثمارية لتشمل مشروعات السياحة والتراث والثقافة، مع منحها حوافز ضريبية وتسهيلات إجرائية تشجّع المستثمر الجاد على الدخول في هذا المجال الفريد.
فالقانون لم يَعُد ينظر إلى الاستثمار بوصفه عملية مالية فقط، بل كأداة لتحقيق التنمية المتكاملة التي تراعي الهوية الوطنية.
لكن هنا يثور التساؤل: "هل الإطار القانوني القائم كافٍ لجذب استثمارات مستدامة في التراث، أم أننا بحاجة إلى تشريعات أكثر تخصّصًا تُعنى بالاستثمار الثقافي؟"
هذا السؤال لا ينتقص من الجهود القائمة، بل يفتح الأفق لتطوير أدوات قانونية تواكب الطابع الفريد للمشروعات الحضارية.
المتحف المصري الكبير: نموذج تطبيقي للاستثمار الحضاري
يُعدّ المتحف المصري الكبير نموذجًا يُحتذى به في تطبيق فلسفة الاستثمار في التراث، فقد بُني وفق شراكات دولية ومحلية دقيقة، وجُمعت تمويلاته من مصادر متعددة شملت القروض الميسرة والمنح والتمويل الذاتي، تحت إشراف قانوني يضمن الشفافية والمساءلة.
كما اعتمد المشروع على نموذج الإدارة المستقلة الذي يسمح بتشغيل المرافق التجارية والخدمية من خلال القطاع الخاص، في حين تبقى الآثار نفسها خاضعة للولاية الكاملة للدولة المصرية.
وهنا يتجلى سؤال آخر أكثر عمقًا: "كيف يمكن للمشرّع أن يوازن بين حق الدولة في حماية التراث وحق المستثمر في تحقيق الربح المشروع؟
ذلك هو التحدي الحقيقي الذي يجعل من المتحف الكبير اختبارًا حيًّا لقوانين الاستثمار في مصر، ومختبرًا لتجربة فريدة في التوفيق بين السيادة القانونية والجدوى الاقتصادية.
إنّ تحقيق هذا التوازن لا يكون بإطلاق أحد الحقّين على حساب الآخر، بل بإقامة نظام قانوني مزدوج يقوم على مبدأ “الشراكة بضوابط السيادة”.
فالدولة هي صاحبة الولاية على التراث، بحكم كونه جزءًا من الملكية العامة التي لا يجوز التصرف فيها أو المساس بأصالته، بينما المستثمر لا يدخل بوصفه مالكًا، بل شريكًا في الإدارة والتطوير والتشغيل ضمن حدود يضعها القانون وتحرسها الأجهزة الرقابية.
ويتحقق هذا التوازن عبر ثلاثة محاور واقعية:
1. إطار تعاقدي مرن يضمن حماية الحقين معًا:
إذ يجب أن يحدّد العقد بدقة نطاق استغلال المستثمر (كخدمات الزوار أو المرافق المحيطة) دون أن يمتد إلى جوهر الأثر أو مكوناته، مع نصوص صريحة للرقابة الفنية والثقافية ومؤشرات الأداء وآليات إنهاء التعاقد عند الإخلال.
2. حوكمة مؤسسية ورقابة مستمرة:
لا تكفي النصوص وحدها، بل تُفعَّل أدوات الحوكمة كالشفافية في التعاقدات، ونشر التقارير الدورية، ومشاركة وزارة السياحة والآثار وهيئة الاستثمار في المتابعة، فعندما يشعر المستثمر أن الدولة شريك منظم لا خصم متربص، تزدهر الثقة ويزداد الالتزام بالقانون.
3. تحفيز الاستثمار المسؤول:
فالتوازن لا يعني التضييق على المستثمر، بل تشجيع المستثمر الواعي الذي يرى في التراث قيمة مستدامة لا صفقة مؤقتة، ويمكن تحقيق ذلك عبر الحوافز الضريبية والتسهيلات الممنوحة للمشروعات التي تراعي البعد الثقافي والاجتماعي، مقابل رقابة دقيقة على أي ممارسات تمس الهوية الوطنية.
وفي نهاية المطاف، فإن المشرّع المصري لا يواجه معادلة صفرية بين الحماية والربح، بل يضع إطارًا يجعل الربح وسيلة لحماية التراث لا وسيلة لاستنزافه، فحين يُدار الاستثمار بوعي قانوني وضمير وطني، يتحول التراث من عبء على الدولة إلى ثروة للأمة، ومن ماضٍ يُحكى إلى مستقبل يُبنى.
نحو مفهوم جديد للتنمية الثقافية
لقد آن الأوان أن ننظر إلى التراث بوصفه موردًا تنمويًا مستدامًا، وأن ندرك أنّ حماية الآثار لا تعني تجميدها خلف الأسوار، بل إدماجها في منظومة اقتصادية متكاملة تشغّل الأيدي العاملة، وتنشّط السياحة، وتجذب رؤوس الأموال المسؤولة.
لكن تبقى تساؤلات مشروعة تستحق التفكير: "هل تكفي النصوص القانونية وحدها لضمان نجاح هذا النوع من الاستثمار؟ أم أن التطبيق المؤسسي، والحوكمة الرشيدة، والشفافية في العقود هي الضمان الحقيقي لنجاحه واستدامته؟
إنّ الإجابة لا تكمن في النصوص وحدها، بل في الإرادة المؤسسية التي تدير المشروعات بعقل استثماري يحترم القانون ويخدم الوطن.
إنّ مصر، وهي تُطلّ على العالم من بوابة المتحف المصري الكبير، لا تقدّم للعالم تاريخها فحسب، بل تقدّم نموذجًا جديدًا لكيفية تحويل التراث إلى قوة اقتصادية تحت مظلة القانون، فالحضارة هنا ليست ذكرى تُزار، بل ثروة تُدار — بثقة القانون، وحكمة الدولة، وفخر المصريين بتاريخهم العريق.
مستشارة قانونية معنية بتحليل البعد التشريعي للتنمية في قضايا الاستثمار
التعليقات