استكمالا للمدخل الحضارى والدينى فى حماية البيئة ومواجهة تغير المناخ، ذكرنا فى المقال السابق أن المقاربة الإسلامية فى هذا الصدد تتضمن وسائل رئيسية لحماية البيئة. وتتدرج هذه الوسائل فى عدة مستويات، ينطلق المستوى الأول من ضمير الإنسان من خلال ربط الحفاظ على البيئة بالعقيدة، أما المستوى الثانى الذى نتناوله اليوم فيتضمن عقوبات شرعية توقع على من يتعدى على عناصر البيئة.
فقد تضمن الفقه الإسلامى أحكاما تتعلق بالبيئة بشكل يؤدى إلى الحفاظ عليها والاستفادة منها بأفضل صورة ممكنة، ومن أمثلة ذلك تحريم الإسراف فى استخدام المياه حتى فى حالة الوضوء للصلاة. ويعد ذلك أولى درجات التعامل التشريعى الإسلامى مع قضية البيئة، ويمكن أن يطلق عليه الأسلوب الوقائى الذى يحقق الردع الذاتى من جانب المسلم تجاه أى محاولة لاستنزاف المصادر الطبيعية.
ثم يتدرج هذا التدخل التشريعى إلى مستوى أشد، يتمثل فى منع جميع ملوثات المياه أو إزالتها، كما شهد الفقه الإسلامى أحكاما فقهية لمنع أسباب التلوث الأخرى، فقد سئل ابن القاسم (المتوفى عام 191هـ ) عن أحقية جيران أحد الأفراد، أراد أن يبنى حماما وفرنا وطاحونا فوق أرض فضاء، أن يمنعوه من إقامتها، فأفاد القاضى بحقهم فى ذلك، ما دام سيسبب لهم هذا العمل ضررا بليغا.كما اعتبر فقهاء المسلمين أن الضوضاء من مصادر الضرر الذى يجب دفعه. وقد كان المحتسب يمنع أسباب تلوث الأسواق مثل تلويث البيئة بالأتربة أو بالدخان أو بالروائح الكريهة.
ثم يصل التدرج التشريعى الإسلامى إلى أعلى درجة وهو توقيع عقوبات رادعة على كل من يلوث البيئة أو يعتدى عليها، بدءاً من تدخين السجائر وحتى دخان المصانع ومروراً بكل أنواع الملوثات الأخرى ما دامت تلحق ضرراً بالإنسان، انطلاقا من القاعدة الفقهية: (لا ضرر ولا ضرار).وأفتى د.نصر فريد واصل مفتى مصر الأسبق بأنه يجوز توقيع عقوبات تعزيزية على المدخنين، وأكد أن التدخين حرام، وبناء على ذلك فإنه من باب أولى يجوز سن عقوبات تعزيزية على من يلوث البيئة، طالما هذا التلويث يلحق الضرر بصحة الإنسان. كما حدد القرآن الكريم عقوبات توقع على من يتعدى على الحياة البرية وهو مُحرم ، حيث يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أوعدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) (المائدة: 95).
وجاء فى تفسير الآية الكريمة أنه يجب توقيع جزاء على من قتل الصيد هو مثل ما قتل أى مماثل فى القيمة - ويحكم بذلك ذوا عدل .وذكر الفقهاء أن المحرم إذا قتل ظبياً أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام .وهو ما يعنى بشكل أو بآخر الحفاظ على الحياة البرية، ويمكن ان يتصاعد هذا المستوى العقابى إلى إنشاء محكمة لشئون البيئة، وهو ما حدث فى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، حيث تم تشكيل أول محكمة لشئون البيئة فى التاريخ الإنسانى، فتروى كتب الفقه عن عبدالملك بن قرير عن محمد بن سرين أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب - فقال “:إنى أجريت أنا وصاحب لى فرسين إلى ثغرة ثنية فأصبنا ظبيا ونحن محرمان فما ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جانبه: تعالى أحكم أنا وأنت، فحكما عليه بعنز، فولى الرجل، وهو يقول: أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم فى ظبى حتى دعا رجل يحكم معه، فسمعه عمر فدعاه ثم قال: (الله تعالى يقول: «..يحكم ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة.. «وهذا عبدالرحمن بن عوف). هذه الواقعة واضحة الدلالة على أن الإسلام قد سبق فى تشكيل محكمة من عضوين تتعلق بشئون البيئة.وهكذا يضيف البعد الحضارى والدينى دوافع أخرى للحفاظ على البيئة ترتبط بعقيدة الإنسان بحيث يصبح حمايتها مندوبا وتلويثها حراما. ويمكن توظيفها ذلك فى التوعية بهذه القضية.
التعليقات