كعادتها الدنيا لاتلبث إلا أن تجعل من الدهر دروسا وعظات، فتاره تسير بك في رحابها وكأنها لم تخلق إلا لك
وتاره أخرى تنزعك نزعا عنها كأنها ما ابقيت لك أي جميل!!
ما كنتُ أحسبُ قبل دفنكَ في الثرى
أنّ الكَواكِبَ في التّرابِ تَغُورُ
ما كنتُ آمُلُ قَبلَ نَعشِكَ أن أرَى
رَضْوَى على أيدي الرّجالِ تَسيرُ
خَرَجُوا بهِ ولكُلّ باكٍ خَلْفَهُ
صَعَقاتُ مُوسَى يَوْمَ دُكّ الطُّورُ
لا أظن إن كان بيننا المتنبي اليوم كان ليكتب هذه الأبيات إلا عن محمد أبوالغيط، ذلك الفتي الذي بلغ من العمر أرذله فقط بعد أربعا وثلاثون عاما. أعلن فيه مرضه الخبيث انتصاره علي ماتبقي من جسده النحيل !
الطريق إلي القاهرة..
كبر أبوالغيط ومعه كبر حلمه كصحفي إستقصائي وكاتب فريد. حمل هذا الحلم في رحلاته المتفاوته من أسيوط إلي القاهره أثناء دراسته الجامعيه للطب لحضور ندوات كتابه المفضلين وأخري خاطفه لمعارض الكتاب.
سبق هذا الحلم نهم وشغف للقراءة خلال سنواته الأولي تلاها التدوين الإلكتروني عن طريق مدونته - جدارية- ومشاركات ثريه أخري في المنتديات. محاولات أبوالغيط لفهم وتعلم كل شيء، دعته إلي عدم التردد في ترك مهنته كطبيب والتفرغ كصحفي باحث عن الضوء في بلاط صاحبه الجلاله.
وله فيها مآرب أخرى..
لم يكن أبوالغيط وحده الذي يبحث عن المتاعب ولكن المتاعب في الأغلب هي التي كانت تبحث عنه، بدايه عندما برز أسمه في التدوينه الشهيره (الفقراء اولا يا أولاد...) أثناء حاله الإستقطاب الشديده التي عاشتها مصر بعد ٢٠١١ وماتلاها من أحداث جعلته مزعجا وكاشفا لاطراف الأزمه وقتها. ثم عمله في العديد من الصحف المستقله واعداد البرامج التلفزيونيه وبعدها مشاركته في إستقصاءات جماعيه مع أكثر من ١٦٣ صحافيا مع مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد وحصوله على جوائز عدة محلية ودولية مثل جائزه مصطفي الحسيني في المقال الصحفي للشبان العرب، وسمير قصير لحريه الصحافه من الإتحاد الاوروبي وجائزه هيكل وغيرها الكثير إنتهاءا بتكريمه في منتدي مصر للإعلام في ٢٠٢٢.
مآرب عديده لم تنتهي به عند الحصول علي الجوائز أو عند نجاحاته الفرديه،هو ما دفعه للوصول إلي ماهو أبعد وهو الإنتماء للإنسان أينما وكيف كان. فكتب ووثق أحداث لم يكن لغيره أن يكتب عنها، واستدعي ضميره، واستعدي عليه الجميع.. وهو ما جعله حتمام من الراحلين.
بالنظر إلى حياة أبوالغيط تجد كثير من المفارقات، صعود سريع مستحق، وهبوط مدوي إلي اللانهايه.. مفارقات تؤكد أن مثله لايجب أن يكون إلا كقصه تروي لأبناء جمعهم سمر صيف جميل..
طالب جامعي لا يكاد يملك الا مايكفيه ليوم واحد، واياما يتم تكريمه كصحفي كبير من أكبر الهيئات والمؤسسات على أعماله.. هي قصه كان الفراق فيه هو العامل المشترك لكل احداثها ، فراق الاهل من أجل حلم في القاهره ، وفراق لمهنته كطبيب لأجل شغف لم ينطفيء الإ برحيله، وفراق لوطنه واغتراب مجبور عليه في بلاد الضباب.. ثم فراق لإبنه وزوجته واحباؤه.. فراق تركه وحيدا حين حضر الجميع...
إلى الضوء أخيرا..
سبعه عشر شهرا لم ينس فيهم أبوالغيط مهنته كطبيب قديم يؤمن بالعلم وقدراته ولم يصل إلي قناعه الإستسلام لمرضه الخبيث، فأخذ يراسل المؤسسات الطبيه لتجربه كل ماهو جديد من علاجات، قد تحمل أي أمل يبقيه ولو لحظات بجانب إبنه وزوجته، لحظات إستغلها أيضا كصحفي وأظنها كانت كافيه لتوثيق ألامه وأماله وتعبيرا قبل رحيله عن نظرته تجاه كل شيء.. كلمات بلغت مداها وزادت من مريديه وأضحت وسائل التواصل الاجتماعي تأن لها وله بالدعاء
.. وكالعاده رحل هو سريعا إلى الضوء
.. يكمل المتنبي أبياته
والشّمسُ في كَبِدِ السّماءِ مريضَةٌ
والأرْضُ واجفَةٌ تَكادُ تَمُورُ
وحَفيفُ أجنِحَةِ المَلائِكِ حَولَهُ
وعُيُونُ أهلِ اللاّذقِيّةِ صُورُ
حتى أتَوا جَدَثاً كَأنّ ضَرِيحَهُ
في قَلبِ كُلّ مُوَحِّدٍ مَحفُورُ
رحم الله محمد أبوالغيط..!
التعليقات