تقدم ألكساندرا أوتشيروفا ديوانها (آفاقي) كما لو كانت تلقي بيانا شعريا فلسفيا، فلا تحمل قصائده عناوين تفصله، وكأنه مونولوج ماراثوني، صوتٌ آت من عمق القلب والعقل معًا، تتدفق حروفه الحكيمة على طريق الحرير الشعري، هاجسه الأمل، وهَمُّه الإنسانية، ومنهجُه العقل الفلسفي، والمنطق الشعري.
هذا الإصدار باللغات الروسية والإنجليزية، والعربية التي سعدت بترجمتها، يأتي في سلسلة إبداعات طريق الحرير، وهو الطريق الذي تمثله سيرة ألكساندرا أوتشيروفا تمامًا؛ فهي سفيرة اليونسكو للنوايا الحسنة، ونائبة الأمين العام لجمعية الشعوب الأوروبية الآسيوية، والرئيسة المشاركة لحركة عموم روسيا "من أجل إنقاذ الشعب"، والعضو في الأكاديمية الروسية في الآداب، والعضو في لجنة الاتحاد الروسي لليونسكو، كما كانت أيضا عضوًا في مجلس إدارة المجلس الرئاسي لتنفيذ المشاريع الوطنية ذات الأولوية والسياسة السكانية منذ عام 2006. وهي الآن عضو في العديد من الجمعيات الأكاديمية الدولية والمنظمات غير الحكومية الأخرى، مثل عضويتها الفخرية في الأكاديمية الروسية للفنون منذ عام 2011، وسفيرة طريق الحرير لغرفة التجارة الدولية لطريق الحرير (SRCIC) منذ عام 2015، وهي قبل ذلك كله حاصلة على الدكتوراه في الفلسفة، جعلها تشارك بنشاط في تنظيم مختلف الأحداث والمؤتمرات الدولية.
في الفترة بين عامي 2006 و2011، عملت الدكتورة أوشيروفا كعضو في الغرفة المدنية في الاتحاد الروسي، ورئيسة لجنة التنمية الاجتماعية ورئيسة لجنة السياسة الاجتماعية والديموغرافية. كانت أيضًا عضوًا في اللجنة المنظمة، وشاركت بانتظام في مؤتمرات القمة الدولية للمرأة، فضلاً عن المؤتمر الدولي للسكان
والتنمية (القاهرة، 1995) ومؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية التابع للأمم المتحدة (كوبنهاجن، 1995).
هذا الانخراط الوطني والدولي في معترك هموم البشرية، على أكثر من جبهة، جعل للحس الإنساني العام لديها صوتا لا تخطئه الأذن حين نقرأ القصائد بيتا بيتا، بعد أن تحولت آفاقها "واحدًا تلو الآخر، إلى دروب وسنوات، حيث يسأم الكلُّ ضجيج السيارات، ويسأل الربَّ المحبةَ والحرية. "
هذه الثنائية المقدّسة؛ المحبة والحرية، هما الخاصتان اللازمتان، ليس فقط للحياة والمقاومة والابتعاد عن الصخب والضجيج اللذين يمثلان التلوث السمعي والبصري، بل لكتابة الشعر كذلك. وخاصة الشعر الذي لا تغادره الموسيقى، وهو ما تجلى في تجربتها أو مشروعها "365 قصيدة "365 Poems" الذي بدأته في 15 أبريل 2020، لأنه في مثل هذا اليوم، قبل 87 عامًا، تم التوقيع على ميثاق روريش بشأن حماية التراث الثقافي، والذي شكل لاحقًا أساس مبادئ اليونسكو.
قرأتُ أهداف المشروع على موقع ألكساندرا أوتشيروفا على الإنترنت، وأستدعيه هنا، لأنه يمثل مصباحا يضيء دروب ديوانها، أو متواليتها الشعرية؛ آفاقي:
"365 قصيدة: إن ذكريات شخص ما، مثل ذكرى البشرية كلها، تكون دائمًا مدعومة بالأحداث والتواريخ، فهي مهمة، ومؤثرة، منتصرة أو حزينة، قريبة من العقل والقلب.
فيوم 15 أبريل من هذا العام (2020) يكاد يمثل للجميع يوما آخر من التوقعات، والأخبار حول فيروس كورونا التي تهدد تقدمنا. نمرّ بها. وكلنا أمل. لكننا خائفون. نحلل ونحاول أن نفعل شيئا. لقد نشأ وضع مأساوي في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن كيفية تحديده على المستويات الوطنية، لكن القيمة الذاتية للحياة البشرية تصدرت جدول أعمال الجميع ... في هذا اليوم، هناك كل الأسباب لتذكر المفكر الروسي العظيم والفنان والرحالة الشهير نيكولاس رويريتش ."
تشير ألكساندرا أوتشيروفا إلى نيكولاس رويريتش ( 9 أكتوبر 1874-13 ديسمبر 1947، الذي كان رسامًا وكاتبًا وعالم آثار وفيلسوفًا روسيًا الشكل. تأثر رويريتش في شبابه بالرمزية الروسية، وهي حركة في المجتمع الروسي تتمحور حول الروحانيات. رويريتش المولود في سانت بطرسبرغ، لأب ألماني موسر من البلطيق وأم روسية، عاش في أماكن مختلفة من العالم حتى وفاته في الهند، وكانت اهتماماته الرئيسية الأدب والفلسفة وعلم الآثار.
كان روريش ناشطًا متفانيًا في قضية الحفاظ على الفن والعمارة في أوقات الحرب. وتم ترشيحه عدة مرات في القائمة الطويلة لجائزة نوبل للسلام. تم التوقيع على ما يسمى بميثاق روريش (لحماية الممتلكات الثقافية) ليصبح قانونًا من قبل الولايات المتحدة ومعظم الدول الأخرى في اتحاد عموم أمريكا في أبريل 1935.
تقول ألكساندرا: "الثقافة هي المجال الأكثر تكوينًا للمعنى في النشاط البشري، والذي أدى بالفعل دوره في تشكيل النظام وفي تطور البشرية. وأتذكر هذا الاسم بامتنان وانحناءة - نيكولاس روريش. إذ نحن نعيش في زمن خاص، تكتسب مخاطره وتحدياته طابعًا دراميًا وأحيانًا مأساويا أمام أعيننا – بدءا بتدمير الطبيعة والعالم الداخلي للإنسان، وخطر تدمير الذات للحضارة الإنسانية. اليوم، هذه هي أهم قضية على جدول الأعمال العالمي؛ يجب أن تصبح هناك أنظمة لإنقاذ البشرية، وأن يكون لدينا نظام أخلاقي جديد وآمن للإنسان. وبصفتي سفيرة للنوايا الحسنة لليونسكو، أحاول تقديم أفضل مساهمة لإفهام أهمية هذه القضية، للجميع دون استثناء، والجمع بين المعرفة والوقت والحب للناس، والعالم، والحياة في خطاباتي ومبادراتي. الآن أستخدم شعري وفي كل يوم وعلى مدار العام سأقدم لكم قصائد كتبتها لكل الناس. أعرف البعض، والبعض الآخر لم أقابله أبدًا - لكن هذه السطور مكتوبة بالحب ومن القلب. اعتنوا بأنفسكم، ليعتني بعضنا بالبعض الآخر، بحياتنا وبكل الأشياء الإنسانية والطيبة والأخلاقية التي ما زلنا نمتلكها."
هذا البيان الإنساني أعده خير ما نقدم به لتلك القصائد، ومفتاح فهم المعاني في سطور خمسين قصيدة مختارة. وأن نردد معها: يجب أن نفعل كل ما نستطيع ليكتمل صوت الشعر في جميع أنحاء العالم.
حين تتذكر الشاعرة الماضي، لا تفعل ذلك رغبة منها في الخضوع له، لكنها أمنية في أن يصبح ذلك الماضي ملهما لها، فبوق أنغام الحرية والحب والرغبات، والأمثال القديمة للشعائر الشامانية، والشعور بالقلق ورجفة الصلوات ... كل شيء تغير، وبقيت كلمات، فرح ودموع، معرفة وآراء، تدوينات رؤى التجارب الدنيوية، وواقع الوقوع في هاوية العذاب اليائس، وبقي الجنون ورجف في الركبتين، لكننا سنرفع الأيدي، بعد أن تغير كل شيء . لكن أحدا لا يعرف أن للطبيعة لحظاتٍ أبديةً – إنه منطق الحافة المليء بالإثارة، آخر حدٍّ من الوحي.
يمكن، لصوت ألكساندرا، كما نقرأ، أن يحيي اللايقين البارد للأرواح المتعبة، وأن يجعلهم يفكرون ويشعرون ويعيشون، وأن يفتح أبوابًا لا مرئية، وأن يضرم نارا خَبَتْ بصوت أنغام الليل والشروق، نعم، هذا الصوت قوة وفضاء، وصمت، وأجنحة، وحرية!
غرام الشاعرة بالطبيعة بلا حد، فالطبيعة البكر، ودورتها الأبدية،بين شروق وغرب، وأماكنها الرمزية والحقيقية، كلها تغمر الإنسان بالدهشة التي تتحول إلى بهجة، فهي تدعونا للتأمل في النافذة التي تستقبل الفجر، بكل بهائه، لأن الجمال مثل حقيقة المعرفة، تتأمل الساعات والدقائق واللحظات، حيث تتحول طاقة الزمن إلى باقة
ضوء:
"كيف لي أن أراه مجددا
في الساعة الدقيقة لميلاد الوجود -
الرنين القرمزي لشروق الفجر
وحي النار الأبدية،
الشعور بقوة الوثنية
والسحر البدائي للمرتفعات.
كل شيء كما هو، ما لم يكن وما كان،
على الأرض، مثل الغموض، تدب فيها الحياة
لتتحول فورا إلى
المروج المستيقظة متعددة الألوان،
حيث يلعبون مع طيور البرق،
أو في عزلة أكوام التبن
وفي عزلة الشتاء الدائمة،
بياض الفكر والطقس ...
والفجر - مرة أخرى كالبهجة،
لا شيء في الطبيعة سيموت."
الأمل الذي تحمله الشاعرة في خاتمة السطور (لا شيء في الطبيعة سيموت)، هو ذلك البصيص المضيء لأن حياة الطبيعة يعني حياتنا، المعنى الفلسفي أن وجودنا باق لأن الطبيعة باقية، وأننا لكي نحمي هذا الوجود لا بد وأن نحمي الطبيعة، ولذلك يتردد معجم الطبيعة ويتألق على صفحات الديوان: " الجنة على الأرض - الطبيعة المحمية".
إن سفيرة اليونسكو لها رسالة لا يخطئها البصر، رسالة من أجل سلام البشرية، وسلامة الطبيعة، على حد سواء، ولديها غضبة النار، ولكنها تتمنى أن يعم الوئام ليشمل البشرية برحمته:
"ما أفضل ألا يعرف البشر
كل شيء من كتاب الكون حتى النهاية:
قوانين الوجود وحساباته
حسبهم أن يعيشوا في وئام مع الخلق
وأن يمنحوا السماء والحقول نظرة،
تقرأ الأسرار في النجوم والعلامات.
وكما هو الحال في نافذة مفتوحة عند
الصباح،
لرؤية العالم، في ثبات ممزوج بإعجاب،
المزج بين الحب والجمال
مثل رمز أبدي للتكرار الأرضي."
التعليقات