كانت علاقتي بأمي خاصة جداً. أمي، بقدر حنانها وقلبها الكبير ومحبتها واهتمامها الذي كانت توزعه على طوب الأرض حرفيًا وليس مجازًا، كانت امرأة قوية لا تتكلم كثيرًا ولا تدلل. كانت تُحب بالفعل وتهتم، فهي تُعطي عمرها حرفيًا لأي شخص تُحبه حتى لو كان جارًا أو قريبًا وليس فقط أقاربها. إذا أحبتك، فأنت جزء منها وتستحق أن تأخذ عينيها بكل سرور. وهذا هو أجمل شيء تعلمته منها.
لديها ثمانية أشقاء وهي الأكبر بينهم. ربتهم جميعًا عندما كان عمرها عشر سنوات وظلت أمًا لهم حتى آخر يوم في حياتها. معظمهم يعيشون في القاهرة وكانوا يملؤون منزلنا بالضجيج والفرح والمرح والحب خلال العطلات. يأتون إلى منزلها مع أطفالهم وليس منزل جدتي وجدي؛ لأنهم يعرفون أن حضنها دافئ وحنون وسيجدون عندها، رغم بساطة حياتها، الخير والبركة.
لم يكن أشقاؤها وأطفالهم فقط الذين نالوا محبتها واهتمامها. جميع أصدقاء أخي وأختي الكبار نشأوا حرفيًا في منزلنا. دائمًا ما يجتمعون حول طبق (بامية) أو (مسقعة) ويا سلام إذا كانت (ملوخية) خضراء لا تجدها في أي مكان آخر. كانت تصنع الخبز وتشوي السمك في الفرن. كانت تذبح الأرانب والفراخ والبط والحمام وتطبخ اللحم والفتة في المناسبات. كانت تُعِدّ الكعك والبسكوت والفطير في الأعياد وتوزعها على الأحباب والجميع له نصيب حتى الذين لم يكونوا موجودين. كانت تخيط الملابس وتبني الجدران المهدمة وتساعد الجيران في حصاد المحاصيل.
الوالدة تفضل تحت رجليها حتى تخف، حتى لو كان ذلك من أحفادها. المريض تذهب له بالمشوار. والغضبانة تعقل على يديها. ما هو إلا (خراب بيت) مفتوح. تحوش وتدبق وتدخل جمعية في التانية لمصاريف المدرسة أو كتب الجامعة أو زواج الأبناء أو جهاز البنت.
لم تطلب أي شيء ولم تشتهِ أي شيء. طالما أنتم ترتدون وتأكلون ما تحبون، أنا أسعد الناس كما كانت تقول دائمًا. عندما أصبحت كاتبة وبدأت أكتب قصصًا وأجلس بجانبها في الغرفة وهي نائمة، أكتب وأقرأ، تستيقظ وتطلب مني أن أقرأ لها وتقول: "ماذا تظنين؟ أنا لو أكملت تعليمي لكنت وزيرة منذ زمان يا بنتي". أضحك وأقول: "هذا أقل ما تستحقينه يا ماما" وأقرأ، وأجد دموعها تسيل وعندما أنتهي تصفق لي بفرحة الأطفال.
على يديها أحببت (فيروز) و(فايزة) و(الحجاوي) و(خضرة) وإذاعة الشرق الأوسط والبرنامج العام. انتقلت بعيدًا عنها منذ عمر السابعة عشرة، وجعلتني أعيش في طرق وبلاد وبيوت، وأنا أفتقدها وأتذكرها في كل لحظة. لا تزال عيناها ترافقني في كل مكان وفي كل الأوقات. بعيدًا عنها علمتني كيف أحب الناس وأعطيهم بلا مقابل. كيف أهتم بأطفالي وأهلي وأصدقائي وجيراني وأعمل من أجلهم حتى أستطيع أن أمنحهم السعادة والأمان والرفاهية.
تركتني أمي وتركت الدنيا ولكنها لا تزال معي ولا تزال تحفظني وتعلمني وتنير دربي. تعلمت منها قيم الحب والعطاء والإخلاص والتضحية والإصرار والأمل. لا يوجد يوم يمر دون أن أتذكرها وأتمنى أن أكون مثلها.
أمي، أنتِ في قلبي وفي أفكاري وفي كل ما أقوم به. أعدكِ أن أحاول أن أكون مثلكِ، لأكون أمًا وصديقة وجارة وإنسانة مثلكِ. أن أنشر الحب والخير والتفاؤل في كل مكان وفي كل زمان. أن أعيش حياتي بكرامة وشموخ وبهجة وسلام. أن أكون مثلكِ، أمي العزيزة.
في كل يوم أتذكر أمي وأسعى لأن أكون مثلها. أحمل معي حبها ودعائها. سأظل أعيش بفضل بركاتها وأسير على دربها الطيب والمبارك. سأظل أحب الناس وأعطيهم وأفرحهم كما كانت تفعل. وسأتذكرها دائمًا وأدعو لها وأشكرها على كل ما قدمته لي.
كانت واثقة إني ما أستحملش عليها الهوا، وكانت عارفة لآخر يوم في عمرها إني ضهرها زي ما كانت سندي. ما كناش بنتكلم كل يوم، وما كنتش باشوفها غير كام مرة في السنة، بس كنت عارفة طول الوقت إنها معايا وجنبي رغم بعد المسافات، وهي عارفة إنها لو شاورت هاتلاقيني قدامها في لحظة.
ربنا يسعدك بالجنة يا أمه. سبحتك في إيدي مش هاتفارقني يا قلب بنتك.
التعليقات