بعض البشر يفضلون التعامل مع الواقع فيجمعون المعطيات المحيطة بهم وقدراتهم الحالية ويعزمون على استغلالها الاستغلال الأمثل والتحرك وفق ما يملكونه في حاضرهم. يختارون بين ما لديهم وما يمكن أن يقدم لهم في دائرة ضيقة تحيط بهم وشعارهم في ذلك (ليس في الإمكان أفضل مما كان). لا يفشل هؤلاء ولا يخيب مسعاهم في الحياة لكن يبقى جزء كبير من قدراتهم مهدر بل وغير مكتشف لأنهم لم يعطوا لأنفسهم فرصة أكبر لرفع سقف التوقعات فهم يمشون مطأطئي الرأس منكمشين راضين بالحد الأدنى من الأداء ومن العيش. عندما تحدثهم عن أحلامك وآمالك ينظرون إليك كما لو كنت تتكلم لغة لا يفهمونها أو كما لو كنت مختلا فاقدا للأهلية أو مغيبا عن الواقع. يرون أن الأحلام تعطل العمل وتعلق القلب بالمجهول وبالوهم. (نحن واقعيون ويجب أن تكون واقعيا وراضيا بما أوتيت من مصادر دخل أو علم أو حتى طاقة بدنية)؛ هذا زعمهم وديدنهم. الأحلام والآمال والخطط المستقبلية في نظرهم ما هي إلا انفصال عن الواقع وهدر للوقت والجهد. يرون أنهم أبناء اليوم وللغد أبناؤه.
حق الأحلام مهدور في كثير من الأحيان. ليست رفاهية ولا تفاهة وقلة عقل ومنطق. من حقك أن تحلم تماما كما أن من حقك أن تتنفس وتأكل وتعيش. كثيرا ما نركز جهودنا على الواقع من حولنا فنجتهد لنعمل وندرس ونسير في الحياة ببذل أقصى ما يمكن لكن هل فكرنا في بذل الجهد في أن نحلم؟! لا تتعارض الأحلام المستقبلية مع العمل اليومي بل على العكس هي التي تمنحنا الثقة والقوة وتشكل كيانا متينا يسحبنا للأمام ويزحزحنا من موقعنا الحالي. ترسم الآمال طرقا كبيرة لانجازات ربما لم تخطر على البال. بذل الجهد الحالي لا يمنع من التطلع للأمام ورفع السقف لتسير منتصبا شامخا ملء السمع والبصر. الشخص الحالم بحق ليس سلبيا متكاسلا بل على العكس عليه أن يشحذ همته ويعمل بلا كلل ليجمع مفردات نجاحه وتحقيق حلمه. الشخص الحالم مبدع ومختلف عن غيره.
يمكن للإنسان أن يعيش حياته كلها في شارع واحد يصحو وينام يأكل ويشرب يعمل ويتزوج ويتكاثر. ستمر به السنون حتى يقضي أجله وهو يظن أن لا حياة وراء هذا الشارع وأنه لا توجد أحياء أخرى تنبض من حوله. لم يحلم ولم يفكر يوما في الاستكشاف أو التغيير. رضي بالحد الأدنى من المعيشة وقد كان يستطيع أن يحول شارعه إلى مدينة كبيرة زاهية ومتنوعة.
الأحلام حق أصيل تهون الطريق وتبهج النفس. من يسعى في طلب العلم لا يكل من أحلام التفوق واكتشاف المزيد من خفايا وأسرار الكون. لماذا يرضى بالقليل من المعلومات بينما يملك التطلع للمزيد؟! الموظف الصغير بدلا من أن يركن لموقعه المتواضع عليه أن يحلم بالترقي والنجاح ليكون يوما كصاحب العمل يملك زمام أمره. الفتاة الشابة تتمنى تحقيق ذاتها وبدلا من أن تجبر على الارتباط بزوج لم تختره عليها أن تحلم بالسعادة والأسرة التي تكونها بمحض إرادتها. من حق المريض أن يحلم بالشفاء التام ويشحذ كل همته الجسدية في تحقيق الاستجابة للعلاج بدلا من اليأس والاستعداد للفناء. لكل شخص قدرات لا محدودة يملكها فقط عندما يؤمن بأنها غير مستحيلة وأن بإمكانه أن يحققها. كم من شخص فقد قدما في حادث لكنه لم يفقد موضع قدم في هذا العالم بل فاز في بطولات عالمية وأنجز ما لم ينجزه أصحاب الأجساد السوية! يمكنك أن تفقد البصر رغما عنك لأسباب خارجة عن إرادتك لكن البصيرة لك وحدك يمكنك العمل عليها لاكتسابها وتحقيقها فالقرار قرارك.
الحلم وقود الحياة. لا تسخروا من عامل يزرع وردة في قصر وهو يحدث نفسه بأنه مستقبلا سيزرعها في قصره. الاستكانة للواقع هادمة لا خير فيها. علينا دوما أن نفكر في الأفضل والأحسن وهذا لا يتعارض مع مفهوم الرضا. أن ترضى بحالك لا يعني أن تمنع نفسك من النظر للغد والعمل على تحسين وتنمية أحوالك. نعيش في الحياة على الأرض وعيوننا وقلوبنا معلقة بالجنة فنعمل بجد واجتهاد ونخرج أفضل ما فينا لنصل إلى الخير كله عاجله وآجله. فلنستقبل كل يوم بأمل جديد وحلم يتجدد. في خضم عاصفة ممطرة ورياح هوجاء يصبح الاستهزاء بالتطلع لسماء زرقاء خيانة لغد سلب منه كل شيء حتى الخيال!
التعليقات