يرى الشاعر والناقد السكندري محجوب موسى (1935 – 2019) أن شدة الوضوح، وشدة العمق، متلازمين في معادلة صعبة إلا على القلة من الموهوبين، فشدة الوضوح قد تؤدي إلى التسطيح، وشدة العمق قد تفضي إلى الغموض، ويضرب مثلا لذلك ببيت للشريف الرضي يقول فيه:
وتلفتتْ عيني فمُذ خفيت ** عني الطلولُ تلفَّت القلبُ
ويؤكد في كتابه "الفن من سورة النحل" إلى أن الادعاء بأن الغموض لازمة من لوازم الفن، ادعاء باطل، ومدعوه لا يرمون إلى القول المتزن. فالفن الحقيقي كوجه الحسناء خلف نقاب شفيف يزيده حسنا وجمالا. وهذا القول يعني التوسل بالتصوير واستخدام طرائق التعبير الفني التي لا تفصح كل الإفصاح تاركة للمتلقي أن يشارك المبدع عمله حين يعمل ذهنه.
ولا يعني هذا إجهاد المتلقي برموز لا مفاتيح لها ولا بمعميات، ولا يعني أيضا أن التصوير ضربة لازب. فكم هي كثيرة هذه الأعمال الفنية والأدبية التي تخلو من التصوير وتأخذ بالألباب، فهناك الصدق وهناك العفوية بل والسذاجة الطفولية الحلوة أحيانا، مثل قول الشاعر:
وأحبها وتحبني ** ويحب ناقتها بعيري
ويرى موسى أن هذا تقرير ولا تصوير، ولكنه يأخذ بمجامع القلوب.
انقسم كتاب "الفن من سورة النحل" الى ثلاثة أقسام، القسم الأول حمل عنوان الكتاب، وفيه يفرق بين طريقة النحل وطريقة النمل في العيش والحياة والإفراز، ودور الفن الالهي في ذلك، حيث يقوم التصوير في تلك السورة القرآنية الكريمة على الوحي، والوحي هنا بمعنى الإلهام والتعليم، فالله جل جلاله كما أوحى إلى أم موسى عليه السلام أن ترضعه وأن تلقيه في اليم، أوحى كذلك إلى النحل أن تتخذ من الجبال ومن الشجر ومن العرائش بيوتا.
ومن هنا تحث سورة "النحل" بلا أمر وبلا نهي وبلا تصريح مباشر على ضرورة الفن وفاعليته حين ربطت المنفعة بالمتعة.
وهو يؤكد في هذا الفصل أن الفنان نحلة، والنحلة فنان، لا من باب المجاز، ولكن من باب الحقيقة المشاهدة، فكلاهما الفنان والنحلة يعطي من ذات نفسه بتوفيق واهبه جل جلاله، ولا يصنع صنيع "النملة" التي توقف جمعها على ذاتها لا غير.
الفصل الثاني تحدث فيه المؤلف عن الانبثاقية والتفتيتية وهما مصطلحان وضعهما محجوب موسى لنقد الشعر، ذلك أنه يبغض التسول من الغرب.
ويعرف "الانبثاقية" بأنها أن يلج الناقد باب النص خالي الوفاض تماما من كل ما سيطرحه على النص من معطياته التي قد تكون مُقحمة على النص استعراضًا أو تعالمًا أو جهلاً بوظيفة النقد أو حشرًا لنفسه في زمرة الناقدين.
أما "التفتيتية" فتعني تفتيت النص إلى عناصره الأولية، ويضرب مثلا لذلك بآراء الخنساء في بيت حسان بن ثابت:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ويطبق المؤلف انبثاقيته وتفتيتيته على نص زجلي لبيرم التونسي يقول فيه:
أربع عساكر جبابرة يفتحوا برلين
ساحبين بتاعة حلاوة جايه من شربين
شايله عى كتفها عيل عينه وارمين
والصاج على مخها يرقص شمال ويمين
إيه الحكاية يا بيه؟ جال: خالفت الجوانين
واشمعنى مليون حرامي في البلد سارحين
يمزّعوا في الجيوب ويفتّحوا الدكاكين؟
وقد ركز محجوب موسى على ثماني مفارقات في هذا النص، بين العدد واحد الذي تمثله المرأة والعدد أربعة الذي يمثله العساكر. وبين ضعف هذه المرأة المغلوبة على أمرها وتجبّر العساكر (جبابرة). وبين السلطة الغاشمة الممثلة في العساكر والشعب المسكين الممثل في هذه المرأة. وبين برلين المدينة الضخمة وشربين القرية الفقيرة. وبين مرارة المأساة وسلعة المسكينة (الحلاوة). وبين حال المرأة المبكية وبين رقص الصاج. وبين حرية اللصوص وتقييد حرية الشرفاء المطحونين.
أما القسم الثالث من الكتاب فقد احتوى على 76 ومضة شعرية وقصائد قصيرة جدا للشاعر محجوب موسى يقول في إحداها:
الشيء إذا جاز الحدا
أمسى ضدا
إلا أمرين اثنين هما: الإيمان .. الحب
فاكرع من نهرهما ما شئت وعب.
التعليقات