الفراق والرحيل هما السمتان الغالبتان على رواية "البلدة الأخرى" لإبراهيم عبدالمجيد، فما من أحد من الشخصيات الكثيرة في الرواية التي وقعت في 388 صفحة إلا وترك مكانه ورحل، سواء كان هذا المكان العمل أو المنزل أو البلدة كلها ـ إما حيًّا أو ميتًا، إما برضاه أو مكرها على الرحيل لسبب معين كأن يكون قد خالف أنظمة البلد أو آتى بفعل غير لائق أو يكون قد نُقل إلى مكان عمل آخر في بلدة أخرى أو قام بعملية نصب محكمة غادر بعدها البلدة وهو منتفخ الرصيد في البنوك الأجنبية.
الفراق هو السمة أو التيمة الغالبة على العلاقات بين الأشخاص في هذه الرواية، فما من أحد يتعرف إلى آخر إلا ويفارقه باختياره أو لسبب قهري أو لانتهاء مدة التعاقد أو الانتقال إلى مكان آخر، حتى الشخصيات الموجودة في أماكن أخرى غير هذه البلدة التي تتحدث عنها الرواية، مآلُها أيضا إلى الرحيل والفراق، فها هي أم إسماعيل خضر موسى ـ بطل الرواية ـ تفارق العالم بالوفاة في مدينة الإسكندرية، وها هي أختُه تفارق المنزل بسبب الزواج، وعايدة الممرضة تفارق البلدة وتنتقل إلى مدن أخرى حيث تعمل في المستشفيات هناك بعد أن أثبتت كفاءة ممتازة بكل مكان تعمل فيهن وبعد أن أراد إسماعيل الزواج منها، ولكن الزواج لم يتم بسبب ظروفها الأسرية وبسبب انتقالها المفاجئ والفراق الذي اختارته بطوع إرادتها، حينما وافقت على العمل في مدينة ضبا، بعد أن رفضت زميلاتُها العمل هناك، كما أن واضحة بنت سليمان بين سبيل تُجبر على العيش في الرياض بعيدا عن تبوك التي تفارقها مكرهةً على ذلك وتُجبر على الزواج من شخصٍ يكبرها بستين عامًا فيفارق الحياة بعد أن تقتله واضحة وتفارق هي بيت أسرتِها وعائلتها وتُودع في السجن بسبب فعلتها، أما نبيل - عامل الكافتيريا - فيفارق إسماعيل وهما على متن الطائرة المتجهة إلى القاهرة بسبب القبض عليه بعد أن اكتشفت الإدارة سرقته لمبلغ خمسين ألف ريال من خزينة المؤسسة، حتى مستر لاري الأمريكي وزوجته روز ماري يغادران البلاد ويفارقان الرواية بعد عملية النصب التي أحكمها لاري على المؤسسة، ولكن لا توجد أدلة مادية على عملية النصب التي تقدر بثلاثمائة ألف دولار، لقد أحكم الأمريكي بمساعدة زوجته عملية الخداع والتمويه.
إن التعارف بين المغتربين من أبناء البلد الواحد، يصبح في اليوم التالي فراقًا، فعندما تقابل كل من إسماعيل خضر وكامل البلتاجي في المدينة المنورة ونزلا في حجرة واحدة في الفندق وأمضيا وقتًا معا وزارا المسجد النبوي الشريف وأعطى الأخير الأول قصة "ليس في رصيف الأزهار من يُجيب" لمالك حداد، وبدأ التعارف بينهما يشكل رافدًا روائيًّا جديدا يستيقظ إسماعيل من نومه فزعًا فلا يجد البلتاجي ولا يجد حقيبته وهكذا يكون الرحيلُ مفاجئًا، حتى أصدقاء إسماعيل في السكن سعيد ووجيه يرحلان واحدًا تلو الآخر، بل أن صاحب السكن يطالبهم بالرحيل عنه والبحث عن سكن آخر لأنه سوف يبيع البيت.

لقد لألقت جدلية التعارف والرحيل واللقاء والفراق ظلالها الكثيفة على نفسية إسماعيل خضر موسى لدرجة أنه أنكر مدينته الإسكندرية عندما عاد إليها في مأمورية عمل إلى مصر، إن الإسكندرية لم تعد المدينة التي يحبها لقد رحلت صورتُها الجميلة هي الأخرى يقول ص286: "أمشي في شوارع الإسكندرية فكأني أرى مدينة لا أعرفها، فالزحام خانق والمواصلات بطيئة والأرض طينية والمباني باهتة والتلفزيون يبث برامج غريبة .. الخ".
لقد استطاع الكاتب في هذه الرواية أن يوظَّف عناصر فنية كثيرة خلافًا للسرد، حيث استخدم أسلوب التوثيق الصحفي، وتيار الوعي، والفانتازيا، عندما تحدث إلى الفئران وتحدثت إليه، فضلا عن براعته في إدارة الحوار على مستويات متعددة وفي أماكن كثيرة واستخدم لذلك اللهجة المحلية السعودية، ولغة العمال الآسيويين عندما يحاولون التحدث بالعربية، فضلا عن تعمده خلط العربية بالإنجليزية وخاصة أثناء حواره مع الأمريكي مستر لاري وزوجته روز ماري.
لقد كانت سمة الفراق والرحيل هي التيمة الأكثر وضوحًا في "البلدة الأخرى" التي يوحي أيضا عنوانها بهذه السمة.
التعليقات