أيُّ سرابٍ ذاك الذي يجعلنا نهرول خلف ظلالٍ لا تروي؟ وأيُّ جوعٍ دفين يدفعنا لنحني رؤوسنا أمام من كسروا أجنحتنا؟
نمشي في دروبٍ شائكة ليست دروبنا، ونخوض معارك ليست معاركنا، ونتنازل عن جوهرنا طمعاً في ابتسامةٍ عابرة أو نظرة رضا خاطفة. كأننا نقدم قرابين روحنا على مذبح الانتماء، فنتفتت في محراب القبول.
ليس كل ما نبذله في سبيل الانتماء يولد من تصنُّعٍ ظاهر أو تكلُّفٍ باد، بل أعمقه ما ينبثق من تلك الانحناءات الداخلية الصامتة، حيث نطوي كبرياءنا طيّاً، ونبتلع شظايا ذكرياتنا الدامية، ونعفو عمن غرسوا خناجرهم في ظهورنا - لا لأننا نسينا الجرح، بل لأننا نتوق بلهفة المحروم إلى دفءٍ لم نحظَ به، وحضنٍ يؤوينا بعد طول غربة.
نعود متسللين إلى أبواب من خذلونا، نحمل في محافظنا أملاً هشاً وقلباً مثقلاً بالرجاء: "ربما هذه المرة سيبصروننا... ربما الآن سنُحتضن لا أن نُهمل، سنُفهم لا أن نُساء فهمنا." فنسارع إلى تبرير جفائهم، ونقبّل بشفاه الصبر جراحهم القديمة، ونمنحهم فرصاً جديدة - ليس لأنهم استحقوها، بل لأن أرواحنا المنهكة لم تعد تحتمل ألم الرفض المتكرر.
وفي هذا المسعى المؤلم، ننثر مفاتيح أبوابنا الداخلية أمامهم دون حساب، ونفتح قلاعنا دون شروط أو قيود، ونضمر ذواتنا في محضرهم كالشمعة التي تذوب لتضيء لغيرها. نراعي أهواءهم ونحن نتحطم، ونضحي براحتنا لنستجدي رضاهم، ونهمس "نعم" بشفاهٍ مرتعشة بينما تصرخ أعماقنا "لا" بعنفوان مكبوت.
لكن المأساة الكبرى لا تكمن فقط في خيبة أملنا المتكررة فيمن سعينا إلى قبولهم... بل في ضياع أولئك الذين وقفوا على عتبات حياتنا بصدق، ينتظرون بصبر لنرى عمق حبهم. رحلوا على أطراف أصابعهم لأننا أوصدنا أبوابنا في وجوههم، ظناً منا أنهم كالينابيع التي لا تنضب، وأنهم سيظلون بانتظارنا حتى ننتهي من نزيف الانكسار.
وفي لحظة صحوٍ قاسية، نكتشف أننا خسرنا كل شيء: لا نلنا القبول الذي أفنينا أرواحنا في طلبه، ولا احتفظنا بالوفاء الذي فرطنا فيه بسهولة.
فيا من تبيع نفسك أقساطاً في سوق القبول، اعلم أن من لا يراك إلا حين تحني هامتك وتنكسر روحك لأجله، لا يستحق قطرة واحدة من دمعك. وأن تُحب بكل عيوبك وتناقضاتك وحقيقتك المتشظية، خير ألف مرة من أن تُقبل وأنت تزحف على ركبتيك نازفاً.
بعض القبول ثمنه باهظ للغاية حتى ليُفقرك من ثراء ذاتك. ومن يحبك بصدق لا يجعلك تدفع هذا الثمن الفادح أبداً، بل يمنحك أجنحة تحلق بها فوق جراحك، لا أغلالاً تقيدك إلى ماضيك.
التعليقات