وملفٌ أثريّ ما زال ينتظر العدالة بعد أكثر من مئة عام..
ليست كل السرقات تُرتكب ليلًا، ولا كل الجرائم تحتاج إلى سلاح. بعضها يحدث ببساطة بورقة باهتة وصورة مشوهة، وكلمة "قطعة غير مهمة". هكذا خرجت أيقونة الجمال المصري، نفرتيتي، من أرضها، لتستقر في قلب برلين، بينما تظل مصر صاحبة الحضارة، وصاحبة الحق واقفة أمام سؤال واحد لا يزال بلا إجابة:
هل خرجت نفرتيتي من مصر بطريقة قانونية، أم أن العالم يحتفظ بتحفة مسروقة تحت غطاء “قسمة” بنيت على الخداع؟
خروج تحت مظلة قانون… لكنه قانون لم يُحترم
عام 1912، وبينما كان العمل قائمًا بنظام قسمة الآثار في مصر، اكتشف عالم الآثار الألماني "لودفيغ بورشهارت" تمثال نفرتيتي في تل العمارنة، والقانون آنذاك كان يسمح بتقاسم القطع المكتشفة بين البعثة الأجنبية والدولة المصرية، بشرطين واضحين: عرض القطعة على اللجنة بوضوح ودون إخفاء، والإفصاح عن قيمتها الفنية والتاريخية.
لكن الوثائق التي ظهرت لاحقًا كشفت أن بورشهارت قدم التمثال بوصفه “قطعة متواضعة ذات ألوان باهتة”، ولم يُظهر قيمته الحقيقية، رغم علمه أن التمثال تحفة فريدة. وبالتالي، فإن ما حدث لم يكن قسمة عادلة، بل قسمة مشوبة بغشّ وتضليل.
الرضا القانوني، والرضا الذي أُهدر بالخداع
من المبادئ الراسخة في القانون أن: "الرضا الذي يُنتزع عبر التدليس ليس رضا صحيحًا، ويبطل أي تصرف يُبنى عليه". وبتطبيق ذلك على حالة (نفرتيتي)، فإن: مصر لم تمنح موافقة مبنية على علمٍ حقيقي بطبيعة القطعة، وبالتالي فإن خروج التمثال لم ينعقد على رضا صحيح، ومن ثمّ يفقد شرعيته القانونية مهما طال الزمن.
هذه ليست رواية عاطفية… بل حقيقة وثّقتها مراسلات بعثة التنقيب نفسها.
هل تحمي اتفاقيات اليونسكو مصر اليوم؟
صحيح أن خروج نفرتيتي سبق اتفاقية 1970 الخاصة بحماية الممتلكات الثقافية، إلا أن هذه الاتفاقية أصبحت مرجعًا أخلاقيًا وقانونيًا. فروح الاتفاقية تقوم على ثلاثة مبادئ رئيسية: منع خروج الآثار بطرق غير نزيهة، واحترام الملكية الثقافية للشعوب، وإعادة القطع التي خرجت من بيئتها الطبيعية بوسائل غير مشروعة أو غير عادلة.
ووفق هذا الميزان، فإن قضية نفرتيتي تخالف تمامًا روح العدالة الثقافية حتى لو سبقَت الاتفاقية زمنيًا.
لماذا ترفض ألمانيا إعادة التمثال؟
تتمسك ألمانيا بحجتين: أن التمثال خرج رسميًا وفق القسمة، وأنه “هشّ جدًا” لا يتحمل النقل. لكن الحجة الأولى تهتزّ أمام وثائق التدليس، والحجة الثانية تفقد قوتها أمام قدرات النقل الحديثة التي تنقل قطعًا أثرية أشد هشاشة حول العالم باستمرار.
إن الأمر ببساطة: ألمانيا لا تريد أن تخسر أيقونة متحفها الأشهر.
هل يمكن لمصر استعادتها؟
من الناحية القانونية نعم، حيث يمكن إعادة فتح الملف، لأن وجود التدليس ينسف شرعية القسمة من أساسها، كما أن الأمر يحتاج ضغطًا دوليًا، وإدارة تفاوضية طويلة النفس، لأن إعادة نفرتيتي ستفتح الباب لمئات المطالبات الأخرى حول العالم.
ومع ذلك، تبقى مصر صاحبة الحق التاريخي الأصيل، وصاحبة الصوت الذي لا يسقط بالتقادم.
كما أن هناك دول أعادت آثارًا بمبادرات ذاتية أو بعد مفاوضات، منها، كإيطاليا حيث استعادت قطعًا من متاحف أمريكية، ونيجيريا التي استعادت البرونزيات من ألمانيا وبريطانيا، واليونان التي تستخدم حاليًا ورقة الضغط لاستعادة رخام البارثينون
ومصر يمكنها استخدام هذه السوابق لإثبات أن إعادة الآثار ليست أمرًا استثنائيًا.
نفرتيتي ليست قطعة أثرية… بل قضية عدالة عالمية
إن قصة خروج نفرتيتي ليست مجرد صفحة في تاريخ التنقيب، بل سؤال أخلاقي مفتوح: هل يحق للعالم الاحتفاظ بقطعٍ خرجت عبر الخداع؟ وهل يمكن للتاريخ أن يقبل بشرعية وثيقة صيغت وهي تخفي الحقيقة؟
إن نفرتيتي — كما كانت في عهد إخناتون — ما زالت رمزًا. لكنها اليوم رمز لحقّ لم يُسترد، وعدالة لم تكتمل.
ويبقى السؤال قائمًا: متى تعود الملكة إلى عرشها؟
التعليقات