ثقافة المقارنة في زمن السوشيال ميديا: نجاح الآخرين كعبء نفسي
لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد منصات للتواصل أو مشاركة اللحظات، بل تحوّلت تدريجيًا إلى مساحات مفتوحة للمقارنة اليومية، يُقاس فيها الإنسان بإنجازات غيره، لا بظروفه أو خياراته أو توقيته الخاص.
وفي هذا الفضاء الرقمي، لم تعد المقارنة سلوكًا عابرًا، بل أصبحت عبئًا نفسيًا صامتًا يرافق كثيرين دون أن ينتبهوا إلى مصدره الحقيقي؛ فما نراه على الشاشات في الغالب ليس الحياة كما هي، بل نسختها المنتقاة بعناية؛ فهي تظهر كنجاحات بلا تعب ظاهر، وابتسامات بلا قلق، وإنجازات بلا إخفاقات سابقة.. نحن نرى فقط النتيجة النهائية، ولا نرى الطريق، ونقارن كواليس حياتنا بلقطات الآخرين المعدّة للعرض. وهنا تبدأ القسوة على الذات، لا لأننا فشلنا، بل لأننا قسنا أنفسنا بمعيار غير عادل.
لقد أعادت السوشيال ميديا تعريف النجاح بشكل قاسٍ ومختزل؛ لم يعد النجاح هو الاستقرار، أو الرضا، أو التوازن، بل أصبح الظهور، وكثرة الإنجاز المعلن والحضور الدائم في دائرة الضوء. وفي هذا السياق، صار الهادئ متأخرًا، والصامت غير مرئي، والمتزن وكأنه خارج السباق، رغم أن كثيرًا من النجاحات الحقيقية لا تُعلن ولا تُصوَّر.
المشكلة لا تكمن في رؤية نجاح الآخرين، بل في تحويل تلك الرؤية إلى محاكمة للنفس. نسأل أنفسنا: لماذا تأخرنا؟ لماذا لم نصل؟ لماذا اختار غيرنا طريقًا أسرع؟ ونتجاهل حقيقة أن لكل إنسان توقيته الخاص، وأن ما يبدو تأخرًا في الظاهر قد يكون نضجًا في العمق، أو انتظارًا واعيًا، أو اختيارًا مختلفًا لا يقل قيمة.
وفي هذا المناخ، يشعر كثيرون بضغط نفسي متراكم، يُساء تفسيره أحيانًا على أنه ضعف، أو حسد، أو عدم رضا؛ بينما هو في حقيقته إرهاق ذهني ناتج عن مقارنة مستمرة، فرضتها كثافة المحتوى، وتكراره، وغياب السياق الحقيقي للحياة كما هي. نحن لا نحسد الآخرين بقدر ما نُرهق أنفسنا بمقاييس لا تناسبنا.
ولعل أخطر ما تصنعه ثقافة المقارنة أنها تُقلّل من قيمة الإنجازات الصغيرة، ومن المعارك الصامتة التي لا يراها أحد. فالنجاح ليس دائمًا ترقية، ولا زواجًا، ولا شهرة، ولا رقمًا يُحتفى به. أحيانًا يكون النجاح هو التعافي، أو الثبات، أو الاستمرار رغم التعب، أو اختيار السلام على حساب الضجيج.
الحياة، في حقيقتها، ليست سباقًا بتوقيت واحد، ولا مسارًا موحّدًا للجميع. بعض الناس يصلون مبكرًا، وبعضهم متأخرين، وبعضهم يصلون بهدوء دون أن يصفّق لهم أحد؛ وهذا لا يجعل أحدهم أقل قيمة أو أقل استحقاقًا، الفارق الحقيقي ليس في سرعة الوصول، بل في صدق الطريق.
في زمن المقارنات السريعة، قد يكون السؤال الأهم الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا ليس: لماذا سبقني الآخرون؟ بل: هل أسير في الاتجاه الصحيح بالنسبة لي؟
التعليقات