منذ عشرين عامًا، وقف نائب في البرلمان المصري يحمل “قِرَب دم” رافعًا لها أمام الكاميرات مدّعيًا أنها فاسدة ومليئة بالملوثات، وتحوّل المشهد إلى قضية رأي عام ضخمة، كما تحوّلت الشركة المنتجة إلى خصم شعبي، ثم إلى ضحية، اتُّهمت، شُوّهت سمعتها، أغلق مصنعها، وتشرد مئات العاملين، قبل أن يقرر القضاء المصري- بهدوء وبعد فحص علمي - أن الشركة بريئة، وأن ما جرى لم يكن سوى “عمل كيدي” مدفوعًا بالخصومة وسوء النية.
تلك الواقعة ليست مجرد قصة في ذاكرة الإعلام، بل أصبحت مرجعًا لفهم ما حدث مؤخرًا حين خرج شابان على السوشيال ميديا يعرضان منتجًا غذائيًا بطريقة درامية، في مطبخ منزلي، وراحا يقدمان “تحليلاً علميًا” لا نعلم مدى صحته. تلقّف الجمهور المشهد بذعر، وانتشرت الاتهامات بسرعة الضوء، وكادت ثقة المستهلك تهتز في لحظات قبل أن تتدخل الدولة في الوقت المناسب.
ومهما اختلف الزمان، تتكرر القصة ذاتها، صوت عالٍ يسبق صوت العلم، ورأي عام يُصنع في مطبخ قبل أن يتكلم أهل الاختصاص.
الخطير هو أن الواقعة الأخيرة لم تكن مجرد خطأ مهني؛ بل كانت خطأً مركبًا: أخلاقيًا وقانونيًا وسياسيًا واقتصاديًا وصحيًا؛ فكونه خطأ مهني لأن الشابين رغم تخصصهما الطبي، لم يفرقا بين “المواصفات الفنية” و“مواصفات الجودة”. وخطأ أخلاقي لأنهما قدّما حكمًا نهائيًا على منتج دون إعطاء الشركة فرصة للدفاع عن نفسها، حتى لو تم ثبوت إدانتها فيما بعد فرضًا. وخطأ قانوني بتعديهما الصريح على اختصاصات الدولة ممثلة في وزارتي الصحة والتموين وهيئة سلامة الغذاء. وخطأ اقتصادي وسياسي لأنه يضرب سمعة المنتجات المصري ويعرض قطاع التصدير لصدمات لا يتحملها في وقت تسعى فيه الدولة لجذب استثمارات وفتح أسواق جديدة.
لكن الأخطر من كل ذلك: أنّ ما حدث لم يحدث لأول مرة في مصر، ولا في العالم. فهذه ظاهرة عالمية، لها تاريخ، وعواقب، وضحايا كُثر.
ففي مصر وحدها تكررت القصة مرات عديدة: فوقائع “اللبن المسرطن”، “والمعكرونة المصنوعة من البلاستيك”، “والأسماك المليئة بالديدان”، “والسمن الذي يحوي طبقة صدأ”، كلها انتهت بتحقيقات رسمية أكدت سلامة المنتجات، وبأن ما جرى لم يكن سوى سوء فهم علمي أو تضليل متعمد أو تصفية حسابات بين شركات وبعضها، ومع كل واقعة، كان الجمهور يُقاد بسهولة إلى حالة هلع جماعي قبل أن تظهر الحقيقة.
ولأن الظاهرة أخطر من أن تُختزل في حدود محلية، فقد شهدت دول عربية عديدة تكرارًا مدهشًا لها. في السعودية، اشتعلت أزمة “الأرز البلاستيك”، وانتشرت فيديوهات حرق الأرز لتأكيد أنه مصنوع من مواد صناعية، قبل أن تقطع الجهات الرسمية بأن كل ما ظهر هو ظاهرة فيزيائية طبيعية لنشا الأرز. وفي الإمارات خرج فيديو يتهم دجاجًا مستوردًا بأنه “محقون بهرمونات مسرطنة”، ليتبين لاحقًا أن الأوردة الدهنية التي ظهرت في الفيديو طبيعية تمامًا، وأن الاتهام مبني على جهل طبي، وفي الأردن تفجّرت قضية “الخبز المسرطن” قبل أن تعلن الحكومة رسميًا أن المادة المتهمة غير موجودة في البلاد أصلًا، وأن صاحب الفيديو استخدم مصطلحات علمية دون معرفة علمية.
والمشهد نفسه يتكرر في المغرب مع “الشاي السام”، وفي الولايات المتحدة مع كارثة “اللقاحات الملوثة” التي روّج لها طبيب فقد ترخيصه لاحقًا، ومع ظاهرة “تايد بودز” التي أضرّت بسمعة شركة كاملة بسبب موجة تريند، وفي الهند مع أكبر حملة تضليل غذائي ضد “نودلز ماجي” التي أدت إلى إغلاق خطوط إنتاج كاملة قبل أن ينصفها القضاء.
هذه السوابق، من مصر إلى العالم - تُظهر أن العالم يعيش ظاهرة واحدة مهما اختلفت اللغات والحدود "التشهير الرقابي" سواء تم ذلك بصورة مباشرة أو ضمنية.
وهي ظاهرة تمنح أي شخص يحمل هاتفًا سلطة القضاء والرقابة والتحقيق والتشهير، دون علم أو مسؤولية أو أدوات قياس، بينما يدفع الاقتصاد ثمنًا فادحًا، وتُعرض المؤسسات الرسمية للإهانة، وتضيع الحقيقة وسط الضوضاء، وتتسع فجوة عدم الثقة بين المواطن ودولته فيفقد مصداقيتها.
إنّ السماح لصناع المحتوى من المؤثرين بأن يحلّوا محلّ جهات الدولة هو باب واسع للفساد، ويخلق نوع من ميليشيات رقابية منظمة ليس لها علاقة بالشفافية، فمن السهل شراء منتج فاسد من أي مكان، وتصويره على أنه من مصنع معين، ومن السهل أن يوظف منافس تجاري صانع محتوى لضرب سمعة شركة، ومن السهل أن يتحول الجهل العلمي إلى فتوى تُدمّر قطاعًا كاملًا.
ولذلك، لم يكن تحرك الدولة تجاه هذه التجاوزات والجرائم مبالغة منها، بل ضرورة لحماية ثلاثة عناصر: ثقة المستهلك، وسوق الإنتاج، وسمعة الاقتصاد الوطني.
فالرقابة مسؤولية علمية دقيقة، وليست محتوى تفاعليًا، والتشهير ليس حقًا مهما كانت النوايا، والضرر العام أكبر من أي مشاهدات. والدرس الأهم، الذي يأتي من قِرَب الدم القديمة، ومن النودلز الهندية، ومن الأرُز السعودي، ومن الشاي المغربي، ومن كل قصة مشابهة حول العالم أن: "العلم يجب أن يسبق الرأي، والتحقيق يجب أن يسبق الاتهام، والمسؤولية يجب أن تسبق الشهرة".
وهذه الحقيقة وحدها كفيلة بأن تضع الأمور في نصابها، وأن تقول بوضوح: "إن ما حدث ليس “فيديو رأي”، بل بداية لمناخ تشهيري خطر، يجب أن يُغلق قبل أن تتكرر الخسائر، وتتكرر المآسي، وتُكرَّر القصة نفسها مرة أخرى، باسم الحرص، وبأدوات الجهل.
ففي زمن يسيطر فيه الهاتف على آراء الملايين، لم يعد كافيًا الاعتماد على القانون التقليدي لحماية المستهلك أو سمعة الشركات وكذلك حماية أمن الدولة واقتصادها القوميين. لقد أثبتت التجارب المحلية والعالمية أن غياب تنظيم واضح لعمل المؤثرين والمعلنين الرقميين وصانعو المحتوى يفتح الباب للفوضى والتضليل، ويجعل أي منشور وسيلة لتدمير سمعة أو نشر الذعر. لذ، صار من الضروري أن تتقدم الدولة بخطوة تشريعية استباقية، وأن تضع قوانين صارمة تنظم نشاط المؤثرين، وتحدد مسؤولياتهم، وتفرض عليهم قواعد واضحة لنشر المحتوى. فقانون كهذا لا يحدّ حرية التعبير، لكنه يحول قوة المحتوى الرقمي من سلاح تدميري إلى أداة شفافة ومسؤولة، توازن بين حرية الرأي وحماية الاقتصاد والمستهلك، وتضع حدًا لأي محاولات للتشهير تحت ستار “المزحة” أو “الرأي الشخصي”.
التعليقات