في شوارع العواصم العربية، يأتيك أثير الراديو بصوت عذب، يشبه طعم مياه النيل، صوت عبد الحليم حافظ، ملهم العاشقين والمحبين، وأيقونة حركات التحرر بالوطن العربي، أبان فترة الخمسينات والستينات.
بالرغم من سنوات عمره القصيرة، التي لم تتجاوز 47 عامًا، قضي معظمها في صراع مع المرض، إلا إن أعمال الفنية، من أغاني عاطفية ووطنية، وصل عددها أكثر من 230 أغنية، بالإضافة إلي 16 فيلم سينمائي، ستظل جزءً أصيلا في ذاكرة الفن العربي.
حياته والقدر
"أنا ابن القدر"، عبارة كان يقولها عبد الحليم حافظ عن نفسه، فولد يتيمًا وعاش وحيدًا بدون أسرة أو زوج، وعاني من المرض لسنوات طويلة، فأجري أكثر من 66 عملية انتهت بوفاته، في إحدى مستشفيات العاصمة البريطانية لندن.
ولد عبد الحليم حافظ في قرية "الحلوات" التابعة لمركز الإبراهيمية بمحافظة الشرقية، وهو الابن الأصغر بين أربعة أشقاء، هم إسماعيل ومحمد وعلية.
نشأ العندليب الأسمر يتيمًا، توفت والدته بعد ولادته بأيام قليلة، وبعد مرور عام واحد توفي والده، لينتقل للعيش في بيت خاله الحاج متولي عماشة، وأثناء لعبه في الترعة، مثل باقي أقرانه في هذه الفترة، انتقل إليه مرض البلهارسيا، الذي تسبب في معاناته ووفاته.
من الممكن أن نقول إن عبد الحليم حافظ، ولد في بيت فنى، فكان لشقيقة الأكبر إسماعيل شبانه، دوراً مهمًا في توجيه ميول العندليب الأسمر، لحب الفن والغناء، لاسيما أن الشقيق الأكبر كان يعمل مطربًا ومدرسًا للموسيقي في وزارة التربية والتعليم.
ومنذ التحاق الطفل الصغير عبد الحليم بالمدرسة، ظهر حبه للموسيقي، وتقدم الصفوف، ليصبح رئيسًا لفرقة الأناشيد المدرسية، ومن هذا التوقيت، بدأت محاولات العندليب الأسمر لاحتراف الغناء.
صار حافظ في طريقه الذي حلم به نحو المجد والشهرة، بالوقوف علي خشبة المسرح، فالتحق بمعهد الموسيقي العربية، قسم التلحين في عام 1943، ليلتقي برفيق عمره الفنان كمال الطويل، حيث كان يدرس العندليب الأسمر في قسم التلحين، بينما كان يدرس الطويل بقسم الغناء والأصوات، وتخرجا معا عام 1948.
عقب تخرج عبد الحليم من معهد الموسيقي، رشح للسفر في بعثة حكومية، ولكنه رفض السفر، وعمل 4 سنوات مدرسًا للموسيقي في بطنطا ثم الزقازيق وانتقل للقاهرة، ثم تقدم باستقالته من التدريس والتحق بفرقة الإذاعة الموسيقية عازفا علي آلة "الأوبو" عام 1950.
وخلال هذه الفترة تقابل مع رفيق عمره، الاستاذ مجدي العمروس، عام 1951 في بيت فهمي عمر مدير الإذاعة، وبالصدفة اكتشف الإذاعي حافظ عبد الوهاب، جمال صوت وموهبة العندليب الأسمر، وسمح له باستخدام اسمه "حافظ" بدلًا من "شبانة".
بدأ عبد الحليم حافظ يضع قدماه، علي أول سلالم المجد، واعتماده في الإذاعة المصرية، في عام 1952 بعد أن قدم أغنية "يا حلو يا اسمر" كلمات سمير محجوب، وألحان محمد الموجي.
وبعدها غني أغنية "صافيني مرة" كلمات سمير محجوب، وألحان محمد الموجي في أغسطس عام 1952، ورفضتها الجماهير في البداية، لاسيما أن الجمهور في هذا الوقت، لم يكن لديه استعدادًا لتلقي مثل هذه الأغاني الخفيفة.
ولكنه أعاد غناء "صافيني مرة" في يونيو عام 1953، يوم إعلان الجمهورية، وحققت نجاحاً كبيراً، ثم قدم أغنية "على قد الشوق" كلمات محمد علي أحمد، وألحان كمال الطويل في يوليو عام 1954، وحققت نجاحاً ساحقاً، ثم أعاد تقديمها في فيلم "لحن الوفاء" عام 1955، ومع تعاظم نجاحه، لتطلق عليه الجماهير لقب "العندليب الأسمر".
الانطلاق نحو القمة
من هذا التوقيت، بدأ نجم عبد الحليم حافظ في الصعود، وغني عدد من الأغاني الخفيفة الجميلة المتفائلة، مثل "نسيم الفجرية"، "ريح دمعك"،"أصحي وقوم"، "الدنيا كلها"، "الأصيل الذهبي"، "هل الربيع".
ولكن مع تفاقم مرض البلهارسيا، وتحديدًا في عام 1956، تبدلت نبرة التفاؤل، واختفت من أغانيه تدريجيًا، وحلت محلها نبرة حزينة.
غني العندليب الأسمر للملحن محمد الموجي وكمال الطويل ثم بليغ حمدي، وتعاون مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، في أغاني "أهواك، نبتدي منين الحكاية، فاتت جنبنا".
وقدم عبد الحلم وبليغ حمدي، بالاشتراك مع الشاعر المصري، محمد حمزة مجموعة من أفضل وأجمل الأغاني، في ذاكرة الفن العربي.
كما غني العندليب عدد من القصائد، للشاعر الكبير نزار قباني، مثل قارئة الفنجان، بعد إدخال بعض التعديلات علي القصيدة، و" رسالة من تحت الماء"، التي لحنها محمد الموجي.
وقود حركات التحرر العربي
ألهبت أغاني العندليب الأسمر، حركات التحرر العربي، خلال فترة الخمسينات والستينات، لاسيما في الجزائر، خلال فترة العدوان الإسرائيلي، بعد حرب 1967، غني عبد الحليم حفلة تاريخية، أمام 8 آلاف شخص في قاعة ألبرت هول في لندن، لصالح المجهود الحربى لإزالة آثار العدوان.
عني العندليب عدد كبير من الأغاني الوطنية، مثل "أحنا الشعب"، "ابنك يقولك يا بطل"، "عدي النهار"، "نشيد الوطن الأكبر"، "حكاية شعب"، "الجزائر"، فكان صوته وقود الصبر للجنود علي جبهات التحرير العربي.
وكان حافظ صديقًا لعدد من الزعماء العرب، مثل الزعيم الجزائري الحبيب بورقيبة، وملك المغرب الحسن الثاني، والملك حسين ملك الأردن، فكان صوته مثل دنات المدافع، التي تقصف لهيبها، لإشعال الحماس في قلوب العرب، وهو ما يفسر انتشر صوره وأغانيه في كبري العواصم العربية حتى الآن.
رحلة المرض الوفاة
تسببت البلهارسيا، في إصابة العندليب الأسمر بتليف في الكبد، وأدت إلي وفاته، وعاني الكثير من الألم بسبب مرضه، وكان أول مرة يكتشف فيها المرض عام 1956، عندما أصيب بأول نزيف في المعدة، أثناء الإفطار في شهر رمضان.
تلقي العندليب الأسمر العلاج في مصر، وعدد من الدول الأوربية، وأجري عدد كبير من العمليات الجراحية، وكانت لديه سكرتيرة خاصة، تدعي سهير محمد علي، عملت معه منذ عام 1972، رافقته خلال رحلة علاجه في كل المستشفيات التي تلقي العلاج بها.
توفي عبد الحليم حافظ، في 30 مارس عام 1977، في لندن عن عمر يناهز 47 عامًا، وتم تشيع جمانه في جنازة مهيبة لم تعرف مصر مثلها، سوي جنازة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حتى أن بعض محبيه أصيبوا باكتئاب، وأقبل بعضهم علي الانتحار.
مات العندليب الأسمر، ولكن ظلت أغانية باقية، تبض بالحب والثورة والحرية، يأتيك أثيرها عبر إذاعات الراديو في الدول العربية، يحفظها عن ظهر قلب العاشقين والمحبين، ليظل حافظ أيقونة الحب والثورة والحرية.
التعليقات