لطالما افتخر الإنسان بأنه سابق الزمن و قفز بالتكنلوجيا لحدودٍ لا يستوعبها العقل وبأنهُ حوَل القارات السبع لمجرد قرية بمنتهى الصِغر تُختصر خلف أزرار هاتفه الذكي ، إذ يُمكن لشخص يسترخي على أريكة في مزرعتهِ بنيوزلندا أن يعرف عن حادث مروري حدث للتو بأحد شوارع بانغي بجمهورية إفريقيا الوسطى،
كما أتاحت وسائل التواصل السريع لأب في سياتل بأن يسدد عبر بطاقته البنكية ثمن تذكرة سفر لإبنهِ عبر طائرة ستقلع بعد قليل من سيئول إلى أوسلو بل و يتابعهُ مرئياً وهو يعتلي الطائرة، والأمثلة تطول لما استطاع الإنسان أن يفعلهُ لإختزال الزمن و المسافات وتحويلها لمجرد نقاط شديدة التقارب، فلا أوراق ولا ثبوتيات بإمكانك السفر والتنقل عبر بصمة إبهامك، لا تحمل نقود معك فهنالك نقود إلكترونية ستغنيك عن حمل المحفظة، العالم كلهُ قرية صغيرة جداً،
الشبكة العنكبوتيه تتيح لك معرفة كل شيء وفي أي وقت بسرعةِ توارد الأفكار، وهذا من الطبيعي أن يصيبنا فيما بعد بالغرور كوننا قد انتصرنا على مصاعب كانت لعقود خلت أشبه بالمستحيلات.
إن الشعور بالتفرد المطلق والثقة بالنفس اللا متناهية جعلتنا نعتقد بأننا قهرنا اللامعقول ، فوصول المسبار الفضائي (نيوهورايزنز) لكوكب بلوتو آخر كواكب مجموعتنا الشمسية وطوافه حول الكوكب ثم تقنيات الجراحة الليزرية عبر ريبوتات بمنتهى الصغر،
كذلك ثورة الإتصالات المهولة التي نعيشها جعلتنا نصل ليقين بأن لا عودة للخلف أبداً، فنقرات صموئيل مورس المستمرة على جهاز التلغراف أصبحت بمنتهى السذاجة أمام رسالة عبر أحد تطبيقات برامج التواصل الإجتماعي بين أيدينا والتي يتم تداولها بسرعة إرتداد الطرف بغض النظر عن المسافات الجغرافية على رقعة خريطة العالم ، لا يمكن أن نبرر شعور الغرور أو أن نجد له الذرائع لكنها طبيعتنا كبشر فلا مناص من ذلك و قد يكون هذا أمراً عادياً - وعلى مبدأ عدم التعميم لأن لا شيئ بالعالم كله يخضع لمفوم واحد -
ولكن البعض ذهب بهِ الغرور الذي جنتهُ نفسه بأن يتحدى الناموس الإلهي برمته وهو نوع هجين من الغرور والتكبربآنٍ معاً ولأجل أن تكتمل الدائرة فهذا الشعور قديم جداً وضارب بعمق الماضي السحيق، هو ذاتهُ التحدي الذي قاد النمرود بن كنعان لأن يبطش بالأرض بإتجاهاتها الأربعة و يأمر بحرق فتىً تطهر من أدران الوثية يُقال لهُ إبراهيم ، هو ذاته ذاك التحدي الذي جعل من الفرعون رمسيس الثاني يقوم للملأ (أنا ربكم الأعلى ) حينما رأى بأن مجريات الزمان و المكان تسعى من بين يديه و ظن بأنهُ يحيي و يميت.
ألم يتحدى عمرو بن هشام المخزومي (أبوجهل ) ذلك الناموس الإلهي حينما قالها لأناسٍ تجمهروا بأحد أندية مكة إذ قال لهم مشيراً للنبي محمد : و الله إني لأعلم إنه لنبي و لكن متى كُنا لبني عبد مناف تبعاً، فتعصبهُ القبلي الذميم جعلهُ يكيل أشد أنواع العداء لمن هو بنظره حق ، إن طريقة القصاص الإلهي من هؤلاء الـــمُتحدين له أتت من جنس العمل، فقط حتى تضرب مثالا للبشرية جمعاء بأن الـــمُتحَدَى هو إله ومن أسمائه المعز والــمُذل و بإنتقامه قمة الإذلال لهؤلاء، فمات النمرود بن كنعان ببعوضة وقيل بذبابه دخلت أنفهُ واستقرت بدماغه و كانت كلما تتحرك يأمر من حوله بضربهِ بالصنادل حتى تهدأ الحشرة التي ولجت لداخله فمات من أثر طرق النُعلِ على رأسه شر ميته وهو الذي تحدى الله بكل كبرياء وكان يقف على الشاهقات و ينادي أين الرب المختبئ بالسماء فلينزل لي و ليقاتلني و لأظننني بأنني غالبهُ،
وما موتُ رمسيس الثاني إلا نموذج ذلٍ آخر عندما ابتعلهُ البحر بصحبةِ جنده عندما خرج مطارداً للفئة المستضعفة بعدما تجاوز كل منح الهداية و صم آذانهُ لكل وسائل الدعوة الإلهية عبر الصبي الذي تربى في حجره وهو النبي موسى، فكان الإنتقام الإلهي بعد الإمهال الطويل هو الغرق في باطن البحر، أما المتعجرف أبا جهل فما قتلهُ إلا فتىً من الأنصار ضعيف الحسب و النسب في يومِ بدر يدعى معاذ بن عمرو بن الجموح لم يتجاوز السادسة عشر من
عمره عندما ضربه بالسيف ضربةً أسقطته أرضاً من على صهوة جواده ثم وثب عليه و جثم على صدره فقال له أبا جهل :لقد ارتقيت مرتقىً صعباً يا رويعي الغنم فما كان من الفتى معاذ إلا أن أجهز عليه ، حتى وهو بين ظهراني الموت إستمر بالتعصب القبلي.
إن النماذج تطول ولكن الفكرة و الهدف واحد ، فكل ما وصلنا إليهِ من حضارة و تقنيات ماكان ليكون هذا إلى بعلمٍ و إذنٍ مسبق من الله و من يعطي يستطيع و يحق لهُ أن يأخذ ، فكما كان العالم كله يشبه القرية الواحدة الصغيرة بسبب تقنيات المعرفة و التواصل ها هو يتحول لجزر متابعدة و معزولة عن بعضها البعض في زمنٍ لم يتوقع أحد أن يكون....
إن تواتر الرسالات السماوية عبر رسل و أنبياء أرسلهم الله للأرض كانت لأجل إعادة إيقاظ الفطرة الصحيحة التي جُبلت عليها النفس البشرية في كل مرةٍ اختلطت فيها الشوائب و شتت مسير طريق الصواب، وحينما لم يجدي النفع بالتقويم كان العقاب الإلهي عبر الآفات والأسقامِ والكوارث و الفقر حيثُ تركت لنا الكتب السماوية عشراتِ القصص التي تحدثت عن أقوامٍ نالها العقاب الإلهي، فلأجلِ التطفيفِ بالميزان أهلك الله قوم شعيب ، ولأجل الرذيلة أهلك الله قوم لوط ، ولأجل منع العطاء أهلك الله قارون و لأجل التعالي و التكبر أهلك الله فرعون وكل ما ذكر يصبُ في بوتقة تحدي الناموس الإلهي،
إن نواة الأسرة هي الزوجين الذكر و الأنثى حيثُ لا يمكن أن يستمر النسل دونهما ولا تقومُ للأسرة قائمةً إلا بهما، فكيف لمثليةٍ أن تفي بالغرض و هذا ما روج له الغرب بحجة أنها من أنواع الحريات بأن تختار أيضاًحرية ميولك الجنسية ، فرفعوا شعار (اليوم انتصر الحب) حينما شَرعَ الساسة الغربيون زواج المثليين و تهافتت الدول الغربية على إعلان ذلك بأنهُ انتصارٌ للإنسانية و أخذت تشرعهُ وترفع شعاراته في حين أنه هدمٌ شنيع لقوامِ الأسرة و تفكك فظيع في نسيج المجتمع،
وكان نذير هلاكٍ قادم لا محال ، إذ جاهر الكثيرون بهذا السلوك المشين و طفوا على السطحِ بعدما كانوا ردحاً طويلا من الزمن مختبئين في أعماقِ الخوف و الذل ، بل صار الإعترافُ بهؤلاء الشرذمة هو مقياسٌ للحرية و الحضارة بنظر دُعاتها متجاهلين بأن هذا إخلال كبير بتركيب الأسرة و التي منها ينتظمُ عِقدُ المجتمع و بتخلخلها تنفرط دعائم و عرى المجتمع بأسره.
حتماً سينتصرُ الإنسان و يقهر المرض أياً يكن و ذلك بأمر الله و قدرته و تنفيذاً لوعده عبر لسان نبيه محمد عليهِ الصلاة و السلام إذ قال : (ما خلق الله تعالى داءً إلا وخلق لهُ دواءً إلا السأم)، و السأم هو الموت و لكن علينا بعد ذلك أن نراجع ذاتنا و نحاسبها و نستعرض أموراً كثيرة مررنا بها كي نعيد تموضع أنفسنا من جديد فكما أن الإعتراف بالذنب فضيلة فالتبرء منها أشد فضلاً،
ومازال الله يقبل الإستغفار و التوبة و اللجوء إليه في أي وقتٍ و بأي مكان فالخلق عياله جميعاً و هو بهم أرحم الراحمين ، و هو أحن على عباده من حنانِ الأمِ لرضيعها و هو بعبادهِ رؤوفٌ رحيم ، لذلك ستنجلي الغمة بإذن الله و سيزيحُ الله البلاء ببركةِ رحمتهِ التي تجوب آفاق الكون و تمخر عباب دروب الحياة كي تحفظ و تصون من حفظَ الله و صانه و أدرك وجودهُ و رحماتهِ خير إدراك.
التعليقات