من عتبة عنوان فيلم (صندوق الدنيا) من تأليف وإخراج عماد البهات، تعرف أنك داخل صندوق يمكنه أن يحوي كل شيء على غرابته وتفرُّقه، حكايات متفرقة ومجتمعة في الوقت ذاته لا يجمع بينها سوى خيط رفيع، حكايات لا تُعَد ولا تُحْصَى، فوراء كل إنسان حكاية، وخلف كل جدار قصة، وفي قلب كل بيت رواية، لذلك ينبغي أن تدخل صندوق الدنيا لتتبَّع الحكايات وتعرفها.
عرائس متحركة في الخيال
في المفتتح يجلس الفتى "على" يشاهد عرائس الماريونيت تلعب أمامه دوراً في حياة العرائس عن حالة عشق بين فتى وفتاة، يتجمَّع حولهم الناس العرائس ونرى رأس الفتى الماريونيت يقطعها مِنجل حاد، ومن خلال ضوء أحمر دموي يتحول "على" لماريونيت تمسكه يد من أعلى غير مرئية.
هل أراد صنَّاع الفيلم أن نعلم منذ البداية أن ما سيحدث أمامنا هو لعبة عرائس متحركة؟ أم أن ما سوف نشاهده هو ما حدث في خيال هذا الفتى الصامت طوال الفيلم؟
الحكايات تبدو منذ الوهلة الأولى منفصلة، فكل فصل من فصول الفيلم الخمسة (الحلم، كابوس، ممرات الخوف، الرهان، آخر نفس) منفصل عن الآخر إلى جانب انفصالهم جميعاً عن مقدمة الماريونيت، وعليك أن تبحث عن الرابط بين الأجزاء.
خيوط رفيعة تربط بين الشخصيات
حاول الفيلم أن يُوجِد علاقات وروابط بين الشخصيات عن طريق خيط رفيع متنقل بين الفصول بحيث يبدو العمل كلاً متكاملاً، فالفتى "علي" الذي شاهدناه أمام عرائس الماريونيت هو ابن عبد الدايم سائق الميكروباص الذي سيقتله "دربكة"، و"دربكة" في نفس الوقت يُخْفي قطعة سلاح يحملها لأدهم همام الذي يريد قتل زوجته رُبى، والتي هي في نفس الوقت على علاقة بحاتم الذي سيقابل "على" بالصدفة، وأدهم همام يتابعه عصفور حتى لا يرتكب جريمة القتل، كي يسمح لنا بظهور شخصية سيد مرجيحة الذي يزور عصفور وفي الوقت نفسه سيد مرجيحة يحب فاطمة التي عن طريقها سنتعرف على الدكتور خالد، الشخصيات تسلم الحكايات لبعضها.
حاول صنَّاع الفيلم أن يجعلوا روابط دقيقة كخيوط الماريونيت تربط بين الأحداث والشخصيات والفصول المقطوعة في الفيلم، فالمكان واحد، والانكسارات واحدة، والضياع واحد والظلم الواقع على الشخصيات الضعيفة واحد، وتقترب الشخصيات الظالمة من بعضها في خط واحد للظلم الإنساني.
الانكسار الداخلي
فلا رابط ظاهر بين الشخصيات غير أن الانكسار الداخلي والذي يبدو واضحاً جلياً، فعبد الدايم والد "علي" انكسر منذ البداية ومات مقتولاً محصوراً على فقد ابنه بطعنة من "دربكة" وظلت روحه منكسرة في مشهد مُعَبِّر حتى بعد أن فاضت روحه، لقد منحنا أحمد السمرة تعبيراً جيداً عن حالة انكسار روح ميت، فلم نشاهد ارتياحاً في تعبيرات وجهه الميت، موت المكسور المحصور، أيضاً فاطمة كانت تريد أن تفرح ككل بنت لكنها انكسرت حين تزوجت عُرْفياً من الدكتور خالد الذي سرق شرفها وسرق ورقة الزواج العرفي وتركها منكسرة، أيضاً الشاعر أدهم همام الذي خانته زوجته كان منكسراً واضح الانكسار، رُبى زوجة الشاعر أدهم همام أيضاً كانت منكسرة بتسليم جسدها لحاتم، حتى حاتم الذي كان طاغياً على من هُمْ أقل منه كان منكسراً لمن هُمْ أعلى منه، ومن يملكون الأموال، ظهر ذلك في علاقته بالمُنْتِج، هي دائرة انكسارات متداخلة يدور في فلكها كل من داخل صندوق الدنيا.
الحاوي نقطة مفصلية
إلى جانب ذلك نجد في الفيلم مجموعة من المقابلات، فهناك شخصيات ضعيفة يقابل كل منها شخصية طاغية، فاطمة مقابل الدكتور خالد، عبد الدايم مقابل "دربكة"، رُبى مقابل حاتم، حاتم مقابل المنتج.
الحاوي الذي جاء في اطار نهايات الفصول وُضِع خصيصاً ليكون الغرض من وجوده داخل الأحداث أن يصبح رابطاً بين الأحداث، ووَضَحَ هذا جلياً في مشهد النهاية الذي جمع الممثلين في كتلة واحدة يشاهدون الحاوي، وكأن صنَّاع الفيلم يشعرون أن الروابط بين فصول الفيلم وشخصياته واهية فجعلوا الحاوي كحبل غليظ ليربط بين الأحداث في حين أن الصندوق يمكن أن يحوي أشياء لا روابط بينها، فقط لو أحسن من يعرض ما في الصندوق اختيارات جيدة وعميقة، وإذا كانت الرسالة مكشوفة في الفيلم فالفصل الأخير كان أكثر كشفاً (آخر نفس) تم جمع كل الخيوط في آخر الفيلم ونحن ندرك إنه النفس الأخير، هل أراد صناع الفيلم بربط الفيلم بالحاوي أن يقولوا أن الحكاية كلها تدور في فلك الحواة، وألعاب الماريونت، ربما، فقد كان الحاوي بمثابة النقطة المفصلية الواضحة المكشوفة لنقل الأحداث من فصل لآخر ومن حكاية لأخرى، فما إن يظهر الحاوي حتى نعلم أن حكاية جديدة ستأتي، مع أن هذا يبدو تعسفياً وبعيد عن نعومة خيوط الماريونيت.
قصص متناثرة
طاقم العمل في هذا الفيلم فَعَل ما كل يستطيعه، لقد قام خالد الصاوي بدور الشاعر المهزوم من داخلة بأداء واضح واستطاع أن يُخْرِج أعماق انكسارات الشاعر، وأحمد كمال استطاع أن يكون النسمة الطرية وسط الانكسارات المتلاحقة في الفيلم بملامحه التي عَبَّرت عن حالة الرضا رغم الظروف التي مر بها، كذلك فعل صلاح عبد الله بملامح وجهه ونظرات عينيه فأوحى لنا مدى خديعته الداخلية قبل أن يحتفظ ظاهرياً بورقة الزواج العرفي ويتخلص من الجريمة، لقد جَسَّد حالة الشخصية بإتقان وإجادة ودون انفعالات تمثيلية حادة، أما علاء مرسى فقد أدي شخصية سيد مرجيحة بأداء يجعلك من الصعب أن تنسى هذه الشخصية بسهولة، وأتقن دوره لدرجة أن شخصية سيد مرجيحة تظل عالقة في مخيلتك بعد المشاهدة، وربما ترغب في الحنو عليها.
هذه القصص المتناثرة في النهاية لا تصنع صورة متكاملة سوى حالة من الانكسارات والاستغلال والطغيان،
من الأفضل أن لا تسأل عن السبب الذي تم من أجله اختيار هذه الحكايات من داخل صندوق الدنيا الوسيع المليء بالحكايات التى لا تنتهي طالما الصندوق ظل مفتوحاً.
التعليقات