عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (سلسلة تاريخ المصريين العدد 342) صدر كتاب "الموت في زمن الرومان" للدكتور حسن أحمد حسن الإبياري، يقع الكتاب في 391 صفحة من القطع المتوسط، صَدَّر الكاتب مؤلفه بالآية القرآنية (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) سورة آل عمران 145 آية و(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) آية 185، ليؤطر الموت عبر مساحات زمنية سحيقة تتشارك فيها جميع البشرية، فللموت قداسة، وهو مكتوب على البشرية.
ولأن موضوع الموت في مصر خلال العصر الروماني حظى بدراسات متفرقة أهمها دراسات البروفيسور "والتر شيدل" التي اعتمد فيها على المصادر الأصلية الوثائقية وبصفة خاصة النقوش، التي تحتوي على بطاقات الموتى وشواهد القبور، وكذلك البردية التي تحتوي على المرثيات وخطابات التعزية واعلانات الوفاة، إلى جانب اتباعه المنهج الإحصائي والتحليلي في دراساته.
ومن المهم أن نعرف أن كتاب "الموت في زمن الرومان" للدكتور حسن أحمد حسن الإبياري، يتضمن مجموعة من الأبحاث المنشورة في المجلات العلمية المُحكمة والتي تقدَّم بها المؤلف للترقي لدرجة أستاذ مساعد، وأيضاً لدرجة الأستاذية.
لا أحد يهرب من الموت
ينبهنا المؤلف أن فكرة الموت استحوذت على جانب كبير من تفكير المصريين، فإدراكهم أن الموت قَدَر محتوم على الجميع كان واضحاً، بانت أفكارهم تلك في خطابات التعزية وشواهد القبور والمرثيات (من أروع النقوش التي عبرت عن نظرة المصريين للموت، لوحة من العصر البطلمي تخص سيدة تدعى "تاي إمحتب" ورد فيها النص التالي "أمَّا فيما يخص الموت فإن اسمه هو "تعال" إذ أن كل من يناديهم نحوه يذهبون إليه دون تأخير، تتخوَّف قلوبهم إذ يخشونه، لا يوجد إله أو بشر يراه، لكن الكبار في يده تماماً مثل الصغار، لا يمكن لأحد أن يتهرب من إشارته إليه . ص 15).
ويطوف بنا المؤلف عبر عبارات تعزية قديمة تحمل تماساً بالقلوب التي توفي لها عزيز فأورد تعزية رجل مسيحي يبدو أن عدداً من أبنائه وأفراد أسرته قد ماتوا بشكل جماعي، ورد ذلك في وثيقة بردية من القرن السادس أو السابع للميلاد (دعنا نمجِّد الرب لأنه هو الذي يعطي، وهو الذي يأخذ، ونتضرع إلى الرب أن يمنحهم الراحة، وأن يسمح لك برؤيتهم في الجنة عندما تحاسب أرواح البشر، لأنهم قد ذهبوا إلى الحبيب إبراهيم واسحاق ويعقوب. ص17) رسائل تعزية مُوثَّقة وردت عبر صفحات الكتاب لا تنكر الموت وتشير بجلاء إلى الاعتقاد بالحياة الأخرى، يبدو ذلك بيِّناً في تلافيف التعازي الواردة في النصوص.
الموت للآلاف من أجل قصيدة هجاء
يتطرق المؤلف لأسباب الموت ولأهم أسباب الوفاة في تلك الفترة، ويركز على الموت نتيجة الولادة، حتى أن الزوج كان يتساءل وزوجته حامل (هل ستنجح زوجتي في أن تحمل مولوداً. ص19) فظاهرة الاجهاض كانت ترتبط في بعض الأحيان بالزواج المبكر للإناث (بعض الفتيات كن يتزوجن ويصبحن أمهات في سن الثالثة عشر. ص20).
ويتبيَّن من دراسة شواهد القبور ارتفاع معدلات الوفيات بين الأمهات الصغيرات، ومن الأمثلة على ذلك ثلاثة شواهد من كوم أبو بيللو" جاء في الشاهد الأول ( "اثينارين" حبية أولادها، حبيبة زوجها، الطيبة ماتت في الثانية عشرة من عمرها. ص 21) وهو ما حدث مع الشواهد الأخرى، ويستمر في سرد وفيات النساء الصغيرات مما يدل على كثرتها.
ثم يدخل بنا لحالات وفيات الأمراض المزمنة أيامها، فالمصادر الأثرية والبردية والتقنيات العلية المستخدمة في دراسة المومياوات تكشف عن الأمراض المزمنة والمستوطنة التي كانت من الأسباب الرئيسية للوفاة في مصر خلال العصور القديمة، إلا أن الوثائق لم تكشف عن أسباب الأمراض، لكن المؤلف يذكر في الهوامش ما قاله روجيه ليشتنبرج في كتاب "المومياوات المصرية من الأسطورة إلى الأشعة السينية" ترجمة ماهر جويجاتي طبعة دار الفكر للدراسات والنشر (حظيت دراسة الأمراض الباليوباثولوجية التي كانت تصيب الشعوب القديمة نجاحاً كبيراً من خلال دراسة أنسجة المومياوات، فمن خلال دراسة المومياوات التي عثر عليها في جبانة "دوش" بالواحات الخارجة تم التعرُّف على بعض الأمراض التي أدت للوفاة مثل: البلهارسيا، والتيفود، والدرن. ص 26 بتصرف).
ثم يتطرَّق للأسباب الغير طبيعية التي تؤدي للوفاة مثل حالات الإجهاض ووقوع الحوادث ووأد الأطفال والسقوط من الأماكن المرتفعة، وحوادث السير والغرق ولدغات الزواحف والحشرات القاتلة، والقتل العمد، ويذكر أمثلة كثيرة على هذه الحالات من الوفاة، أعجبها ما ترويه الوثائق عن نسَّاج يدعي "تريفون" عاش في بداية القرن الأول للميلاد، تقدم ببلاغ للسلطات يشكو فيه من قيام زوجته الأولى وأمها "ثينامونيس" ربما بدافع الغيرة والحقد، بالاعتداء على زوجته الثانية "سارايوس" التي كانت حاملاً؛ مما أدَّى إلى إجهاضها.
يلمح المؤلف إلى أنه (ظهرت خلال العصرين البطلمي والروماني عادة التخلُّص من بعض الأطفال الرضع بإلقائهم في أكوام نفايات المدينة أو القرية. ص48) مع ملاحظة أن حالات التخلُّص من الأطفال لم تكن ظاهرة عامة، ويذكر أيضاً من كثرة عدد القتلى أيام عصر الامبراطور كراكلا (211-217) حيث حدثت مذبحة رهيبة ارتكبت في الاسكندرية، قتل فيها كراكلا غدراً ما يقرب من عشرين ألف سكندري، بسبب قصيدة هجاء قيلت فيه، ثم يستفيض المؤلف في شرح جداول مهمة ترصد متوسطات أعمار الوفيات، مما يجعل القارئ يحصي ويرصد أموات تلك الفترة بوضوح.
النبلاء يستحقون تحنيطاً أفضل
أُسُس المعتقدات الدينية المتعلِّقة بالموت والعالم الآخر لم يطرأ عليها تغير جذري ما بين العصر الروماني والعصر البطلمي وعصر الأسرات المصرية القديمة؛ فالطقوس الجنائزية لم تتغير، ومراسم التحنيط والدفن لم تتغير، كان هناك شيئاً مهما في التحنيط، فلابد أن يحافظوا على الجسد سليماً وفق ما ذكره محمد أبو المحاسن عصفور في كتاب "معالم حضارات الشرق الأدنى القديم ( وكانوا يعتقدون أن بعد موت الجسد تظل الروح تحيا إلى الأبد لهذا أراد المصريون تخليد الجسم بتحنيطه، والحفاظ على شكله كاملاً وحمايته من التحلًّل حتى تستطيع الروح التعرُّف إليه بعد الدفن، وتعود إليه مرَّة أخرى. ص 149)
ثم يشرح المؤلف فكرة التحنيط وكيفيته، إلى جانب تطرقه المستفيض للمواد التي يستخدم فيها التحنيط، ويفصل ذلك بأن هناك ثلاث طرق للتحنيط وفقا لما أشار إليه هيرودت من أن التحنيط يرتبط بالوضع الاقتصادي للمتوفى، فهناك تحنيط يخصّ النبلاء، وهو أجود أنواع التحنيط وأرقاها، من حيث المواد المستخدمة وطريقة التحنيط المميزة، وتحنيط آخر للطبقات المتوسطة، وطبقة ثالثة تعد من أرخص عمليات التحنيط، يختلف ذلك حسب طريقة التحنيط وجودتها ونوعية المواد المستخدمة في التحنيط.
فكلما كان المرء غنياً نبيلاً كانت عملية تحنيطه تتم بطريقة أجود بمواد غالية القيمة، وعملية التحنيط هي عملية معقدة لها نظامها الخاص يستفيض الكاتب في شرحه عن من يعملون فيها، سواء كان كاتب وسكرتير، أو مختصون بشق البطون، أو محنطون، أو كهنة مسؤولون عن إلباس تماثيل الآلهة، أو مقدمو القرابين، إلي أن يصل لحفاري القبور، والمتخصصون بإعداد الجثمان للدفن، نهاية بالندابين وحراس الجبانة.
بعد استكمال عملية التحنيط (يتم وضع بطاقة تعريف بالمتوفى حول رقبته، أو أسفل قدمه، تتضمن البطاقة: اسم المتوفى، واسم والده، ووالدته، موطنه، مهنته، عمره، وفي حالات نادرة تتضمن البطاقة سبب الوفاة وتاريخها، وبعض الأدعية. ص 178).
ثم ينهي الكتاب بآثار الموت القانونية والاقتصادية والاجتماعية من حيث اعلانات الوفاة، والوفاء بالتزامات المتوفي تجاه الدولة، والمواريث والوصايا، وتعين الأوصياء، ورد القروض، وسرقة ممتلكات المتوفي، الكتاب سياحة ممتعة في عالم الموت في مصر زمن الرومان، لن تخرج منه إلا وقد أحطت بموضوعه من جميع جوانبه، ويختمه المؤلف بصور توضيحية تزيد الأمر استيعاباً ومتعة.
التعليقات