الأسبوع الماضي تركت سيارتي في الإسكندرية وعدت للقاهرة مع زوجي.
في الصباح الباكر اصطحبني زوجي لمكان عملي بجوار جامعة القاهرة. كان عليّ تدبر عودتي إلى التجمع الخامس بالقاهرة الجديدة، عزمت استخدام أوبر في العودة.
عند انتهاء الدوام، خطرت لي فكرة جريئة ومختلفة، قررت خوض "تجربة التجرد من النِعَم".
سألت عن مواصلات عامة للتجمع الخامس وما احتجت سوى دقيقتين وكنت قد قفزت في "أتوبيس الشعب الأزرق" المتجه إلى موقف الميكروباص في المنيب.
اتخذ الأتوبيس مسلكًا طويلا حتى نهاية شارع صلاح سالم. أتوبيس متوسط الكثافة نضيف، دقائق معدودة وكان قد خلا مقعد وكان يقف بجواري رجل كبير فأشرت إليه بالجلوس لكن تفجرت فيه شهامة الشعب المصري الأصيل، فكيف يجلس وتقف بجانبه سيدة؟!
رحلة كلفتني ستة جنيهات جالسة على مقعد مريح من الجلد، ورغم أن درجة الحرارة كانت ٤٠ درجة لكن تهوية الاتوبيس كانت أكثر من مناسبة.
وصلت للمنيب واتجهت تحت قيظ الشمس الحارقة والأسفلت الملتهب إلى الموقف، استقليت الميكروباص سالكًا الطريق الدائري المتجه إلى شارع التسعين بعد الجامعة الأمريكية.
كان ذاك نفس المشوار الذي أقطعه بسيارتي، كلفني ١٤ جنيه.
جلست بجوار السائق وحجزت المقعد الذي بيننا واستمتعت برحلة متفردة. الهواء الساخن لم يكن يزعجني فقد كان أحد أهم أسباب شعوري بفضل نِعَم الله عليّ.
كان السائق يتحدث في المحمول، وعند اقترابه من أماكن الرادارات التي يحفظها عن ظهر قلب، يتركه ويضع كلتا يديه على الدركسيون كما نفعل جميعًا منذ ظهور الرادارات في حياتنا … المصري خفيف الظل لا يعجزه شيء ولديه دائما حلول.
وصلت أخيرا إلى ميدان النادي، تبقى مسافة كيلومترين حتى الميدان المؤدي لمكان سكني. قفزت للمرة الأخيرة في ميكروباص نطلق عليه "تمناية"، أجرته خمسة جنيهات.
لن تعرف أبدًا كيف تدخل إليه من صغره، هؤلاء المهرة أغبطهم على لياقتهم، لكن من المؤكد أنك تخرج منه زاحفًا أو محمولا على الأعناق كما تخرج من سيارة الإسعاف.
دخلت على ركبتي وخرجت منه جالسة ربما كنت احتاج كتيب إرشادي لفعل ذلك!
كلفتني الرحلة كلها خمسة وعشرون جنيهًا، وقد كان تقدير سيارة الأوبر ما يقرب من ٤٥٠ جنيه ففي وقت الظهيرة ترفع فئة المحاسبة.
في مصر الغالية كلنا نعيش، مهما بلغت المصاعب الاقتصادية دائمًا يوجد مخارج.
من أسباب تحضر المجتمعات، أن يكون الجميع قادرين على استخدام وسائل مواصلات حكومية تحترم آدميتهم وتقلل نزيف وقتهم بطرق متسعة جيدة التمهيد … وأرى أننا اليوم نقترب.
تبقى لديّ عشر دقائق لأصل لبيتي، مشيتهم في عز الحر وأنا في غاية السعادة.
ظللت أراقب أفراد الأمن الذين يعملون بصبر ويستقبلونك بابتسامة وحفاوة متجاهلين كل الظروف الصعبة من حولهم، كذلك عمال النظافة والزراعة الذين يجوبون المكان ويتركونه في غاية النظافة والجمال.
أصبح لديّ فكرة حقيقية عن معاناة السيدة الفاضلة التي تعينني في شئون منزلي وكيف تصبر على ركوب ثلاث مواصلات في عز القيظ أو البرد.
صديقي لقد كانت تجربة مفيدة وثرية، نحن نعتاد على النِعَم وننسى ونتغافل عن أن دوامها يحتاج الشكر الدؤوب لله تعالى.
نعم استمتعت بالرحلة، خاصة وأني كنت شخص غريب مررت على أماكن شعبية شعرت فيها بكامل الأمن والأمان. كنت بين ناسي وجيراني ولو لم أعرفهم.
لم أخف لحظة واحدة، فمصر بلدي العظيمة يمكنك فيها في أغلب الأماكن أن تراهن أنك ستصبح بخير. بين شوارعها وناسها الطيبين وجدت من يرشدني للطريق الذي أجهله تمامًا. رغم غربة الطريق ومسلكه الطويل شعرت بمعنى "أن تصبح آمنا في سربك".
طوال الرحلة كنت أسأل عن أسماء الشوارع فلا أحب أن أُساق أبدًا؛ المعرفة والتعلم من صفات القادة وطريق وحيد لتصبح شخص متفرد ومختلف.
كانت تجربة ثمينة، دعوة لنا جميعًا لتطبيق التجرد من النعم لمعاودة الشعور بها وتثمينها.
من اليوم لن يُأرقني أن أقود لساعة أو ساعة ونصف للذهاب لعملي بسيارتي المكيفة وأنا استمتع بسماع القرآن أو موسيقتي، تلك النعم الثمينة تحييني وتحفظ عليّ هدوئي وراحتي.
لن أسمح لعِظام ظهري وفقراته الضعيفة أن تتألم، فهي في نعماء مقيمة.
العبرة بروح النعمة وليس بقيمتها، فالجاحد بنعمته يرتدي ثوب الضجر.
من أخطر ما في التعود على النعم ثلاث أشياء: أولها أن تصبح حق مكتسب، ثانيها أنك تتناساها، وثالثها أنك تتطلع إلى ما يليها متجاهلا إمكانية زوالها.
أما فقدان النعم مرهون بنظرك لما في يد غيرك.
كل نعمك هي توفيق من الله لك، لا تزول إلا إذا انشغلت عمن رزقك إياها.
يقول نبينا العظيم: "اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم". هذا ما فعلته يا الله وسأظل أفعل ما تمكنت من ذلك.
ربي أَدِم عليّ نِعَمَك واكفني بك عن نفسي وسوءِ وجهلي وكن لي وليًا هاديًا، ثم عرفني طريقًا لا أنسى به فضلك وجودك الذي أطللت به على عمري، فاحمدك كل يوم على كل حال حتى تكتنفني برحمتك في الدنيا والآخرة.
التعليقات