في أمسية لطيفة مع بعض الأبناء الشباب كنا نلعب لعبة إلكترونية اسمها Would you rather أي هل تفضل.
تعتمد اللعبة على أسئلة إجاباتها أحيانا يسيرة وأحيانا كلتا الإجابتين تكون محيرة بدرجة عجيبة.
استوقفني سؤال .. هل تفضل أن تقابل نفسك في الماضي أم في المستقبل؟
على بساطة السؤال لكني لم أستطع الإجابة عليه ورأيت أنها تحتاج ربما جلسة أو وقفة مع النفس.
أحب تلك اللحظات التي تستدعي وقوفي مع نفسي، التي تجبرني على التذكر وإعادة إحياء مشاهد الماضي أو ربما تحليل وتدقيق لسنوات مرت ولم أجد الوقت الكافي للتحدث عنها.
دعني يا صديقي أصيغ لك السؤال بطريقة أخرى كي نستطيع الإجابة عليه، هل تحب أن تعود بالزمن لتعدل بعض من شخصيتك وسلوكك أم أنك تفضل أن تلتقي فقط بالنسخة التي صرت عليها في المستقبل؟
يظل التاريخ وجهة نظر!
منذ أكثر من ٢٥ عاما مضت وفي جلسة ظريفة مع بعض الأصدقاء في نادي سبورتنج، سأل أحدهم الحاضرين عن الأشياء التي نتمنى أن نغيرها في سنوات عمرنا وعن الأحلام والأمنيات التي نود أن نغيرها في أنفسنا أو حتى أجسادنا.
وانقلب الحديث لأمنيات تحتاج مصباح علاء الدين لكل منهم، عندما جاء دور إجابتي كانت صادمة لهم، قلت لا أريد أن أغير في نفسي ومن حولي أي شيء نهائي. كنت راضية عن كل ما وهبني الله بجماله وصعوباته وتحدياته وأيضا آلامه.
ربما جاءت إجابتي صادمة وربما غير مصدقة من معظم الحاضرين لكني لازلت عند رأيي.
أحب أن أتعامل مع قدري كما وهبني إياه الله .. فهنالك تلقى أجر المشقة وأمان الوصول.
لون بشرتك، وزنك، ملمس شعرك، درجة غناك أو فقرك، عدد أبنائك ونوعيتهم، دراستك وترقيك في العلم، أهلك، أصدقائك، وأقاربك، سيارتك، صحبتك لمن حولك كل ما تملك أو حرمت إياه.. الكثير والكثير كلها مكتسبات لك في الدنيا بعضها لن تغيرها أبدا ووجب عليك أن تحبها أو تتقبلها كما هي، والبعض الآخر يمكنك أن ترتقي وتجَوِّد فيها لتكون خير نسخة من نفسك.
رأيت على مر السنوات أُناس يمتلكون تقريبا كل شيء، لكن أسوأ ما يمتلكون نفس جوعى وروح شرهة للدنيا ومعدة لا تكتفي بما يوضع أمامها من أرزاق.
كما رأيت نوع خاص جدا من الناس يصنعون من اللاشيء حياة تستحق التقدير والاحترام.
أنا أعرف تماما من أكون، وكيف مرت عليّ الخمسين سنة الماضية. لم أنسى أبدا كل من كان هنالك بجانبي وكل يد امتدت إلي بمحبة ورحمة، كما لم أنسى أبدا كل شخص تسبب في وجعي وتجاوز قلبي وترك في روحي بصمة لأصابع الغدر والحقد والكراهية.
الأهم وما عولت عليه حقا أني لم أكن أصفي حساباتي مع أحد أبدا، بل كنت ولازلت أترك الأمر كله لله، وكان ولازال يرد غيبتي ويضعني في أفضل زاوية أرى منها نفسي ومن حولي.
لا أخفيك سرا يا صديقي لله طريقة بديعة يعرفك من خلالها ماذا يريد منك وكيف تعتمد عليه وأقصر الطرق لتجويد منبتك وأفضل النهايات المنزرعة بالعدل التي تمهد لك دنيا تجوبَها بالحب.
كل يوم كنت فيه يا صديقي تزرع في نفسك ومن تحب، كل ضائقة كتمتها في صدرك كي لا تؤلم من تحب، كل مرة كنت الطريق لأحدهم، وكل محنة عبرت من خلالها لتصل لهدف نبيل .. كل ما سبق وزيادة كان لأنك تعلمت كيف تحب ما لديك ولا تتمنى الزرع الطيب إلا إذا كنت أنت من سهر على مراقده.
لم يكن الشخص الذي سكنك في الماضي بغريب عن الذي يعيش بداخلك اليوم، بل هو أنت لكن النسخة أكثر نضجا وجمالا.
حاجة من الحاجات العظيمة إنك تعرف تشتغل على نفسك، الإنسان الذي لا يتطور ولا يعدل من شخصيته ويطور مهاراته حسب توجهات دنيته ينتهي به المطاف كعلامة مضحكة، شخص يرتدي ملابس الخمسينات وهو في ٢٠٢٥.
أنت اليوم نتاج تفاعلك في دنيتك طوال سنوات عمرك الماضية فإذا لم تكن راض عن مكتسباتك في الماضي؛ فلن تحب أبدا أن تلتقي بنفسك في المستقبل.
يأتي بنهاية المقال إجابتي على السؤال بالأعلى، لا أحب أن ألتقي بنفسي في الماضي لأني أعلم تمام العلم أني أديت فيما سبق قدر استطاعتي .. كذلك لا أفضل أن ألتقي بنفسي في المستقبل إطلاقا لأن القدر يأتي مغلفا بالرحمة في أوانه.
أُفَضِل يا صديقي أن أعيش اليوم بيومه، ألا أتعجل وصول الخير من الله، أن أتمهل في حزني فهو شريك سعادتي وسبب تمسكي بمكتسباتي. أريد أن يكون ظاهري كباطني .. ألا أخشى اختبار كشف الكذب لأني لا أعرفه .. أن يكون لعملي نوايا طيبة .. وأن أترك مسك التواجد في الحضور وقبيل المغادرة.
أريد الرحلة .. أن تكون الرحلة مستحقة!
الرحلة يا صديقي ستعرفك جيدا من كنت ومن هو الشخص الذي ستلتقيه في المستقبل.
الرحلة التي تبذل فيها الجهد الجهيد، الأمل الذي لا ينقطع، الرحلة بسلام الخفيفة على القلوب غير مثقلة ببغضاء، آمنة بمودة ومطمئنة دوما إلى جوار الله.
التعليقات