بيضاء بلا حدود- الورقة- منبسطة أمامه، ممتدَّة ومتصلة بالبَكَرة أسفل المكتب، حافتها تلمس حافة المكتب، بجانب السَّرير: أكوام أوراق الذكريات ملفوفة بحبل بأحجام غير متناسقة، كادت تصل للسقف، رشَّح عليها ماء الشِّتاء المتسرب من الجدار، سالتْ بقع حبر على الحائط.
ما يفكر في فعله بعد مرور الساعات الأولى من يناير- اليوم- هو تحويل الذكريات والسَّرير للحائط الآخر.
نظر في بياض الورقة التي بين يديه، غاص في اليوم، تحرك اليوم أمامه.. حروف وصور، خليط من ألوان لم يَرَها من قبل، تنبسط وتنكمش، تبرق وتنطفئ، حاول أن يثبتها على الورق، هرب في سحابات دخانية قلقة، متوترة، أمعن النَّظر داخلاً تحت غيوم اليوم. ظهرتْ.. سمراء كسمرته، شفتاها دمويتان، عيناها بحر.. منذ سنوات رفضت أمه أن يتزوجها؛ خافت إنْ تزوجها ليغضبن قلبها وربها عليه ليوم الدِّين.
- وهل يرضي يوم الدِّين بهذا؟
- البنات كثير.
- أريد مريم.
رفضتْ مريم الزَّواج منه بدون رضا الأم واختفتْ، لم يرها بعد ذلك إلا خلف الدُّخان، عندما تعاود الظهور في مثل هذا اليوم. فقد فتَّش في أكوام الذكريات فوجد أنَّ الورقة الأولى مكرَّرة بنفس الشكل.. تأتيه بدلال، مفرودة الشَّعر، بكل تفاصيل جسدها، تتمايل على الصَّفحة، حاول حبسها بين الخطوط، استلقتْ على الصفحة السَّرير، يغمر جسدها حروف متداخلة كأنَّما طُبِع على جلدها كتاب اختلطت حروفه، حدَّد معالم الجسد، تتبَّع الحروف الجلد باحثاً عن كلمة، دار بالقلم على حدود الصَّفحة، مسحها طولاً وعرضاً، ارتفعت درجة حرارتها حَتَّى شملتْ سِّن القلم، وصلتْ من القلم لذراعه وغمرتْ جسده كله، ازدادت الحرارة بينهما، وصل لتوهُّج لا يستطيع التحكُّم فيه، أصبح القلم جزءًا من لحم اليد الجسد: مشبوك فيها، يكتب بالحبر الدَّم المتصل بجسده كله، الصَّفحة دوائر عضلية مصَّاصة تكلبش بقوة وشراسة، تسحب القلم لداخل الدَّاخل، تشدُّه لسر الحروف، فيرسم أشياء لم تُرْسَم من قبل، تضيق الدوائر وتتَّسع ناقلة إياه لحالة من الاتحاد الكلي مع الحروف المبعثرة فتحات على الصفحة، حاول فَكَّ الرُّموز، تكوين كلمة واحدة. ضغط كل حواسه. بدأتْ الحروف تتشكل، تنبعج وتتمطط، تتلوي وتشهق، تصرخ في أذنه:
- أحمااااد... أحمد.
النِّداء مطرقة دقَّت على زجاج محبرة القلم، رجَّت المسافة بين الحبر والسِّن، أرهف السَّمع، الصَّوت: حروف غير مرسومة، واضح تماماً، يحوطه، يغلِّفه.
- انت يا ولد.
النبرات قديمة، هاربة عبر الحبر النَّاشع على حائط غرفة الأم المجاورة.. ماذا تريد الآن؟ شدَّ قبضته على القلم، جذبتْ الصَّفحة القلم بقوة، دقَّ النِّداء عنقه وعنق القلم، رأسه- الموزع بين النداء وشد السن- يغلي، ضغط بالسِّن يراوده الانسحاب؛ تلبية للنداء، ظل يكتب ويخط ويرسم على الصَّفحة.
- ولد.
تحوَّل النداء لأزرع إخطبوطيه تريد سحبه من فوق كرسي المكتب، الصَّفحة تصرخ وتصرخ، تتمسَّك بالقلم، تتشبَّث بكل دوائرها وكماشاتها تطلب نهاية الرسم واكتشاف سر الحروف المبعثرة، علا الصُّراخ وعلا النِّداء، قطرات الحبر - في زجاجة القلم - تفور متدافعة لثقب السِّن؛ تريد أن تنطلق، تنقذف، تهرب من بطن القلم.
جذب... نداء
نداء...جذب
أيهما يترك؟
القلم المحمَّل بكل أعصابه يدخل مجذوباً ويخرج مشدوداً، النِّداء والصُّراخ اخترقا طبلة أذنه، يتصدع، انفجرت براكين خلايا رأسه المشتتة، جاهد نازعاً نفسه من كليهما، اشتَّد الجذب والنِّداء، توالت انفجارات الخلايا.
نهض واقفاً ويده المتشنِّجة تعصر القلم، أزاح الكرسي، جرَّ القلم خَطَّاً طويلاً سائلاً على الورقة، سقطتْ قطرة على الأرضية، رفع بصره الزَّائغ المغبش جهة الحروف المتبقية من النِّداء، كانت صورتها محاطة بإطار ذهبي متآكل، تطوقه من أعلى اليمين قماشة حريرية رفيعة سوداء.
التعليقات