كان للمخرج السوري (العالمي) مصطفى العقاد، رسالة يهدف إلى توصيلها للآخر، عبر فيلمه "الرسالة" بشقيه العربي والإنجليزي، وهي توصيل رسالة الإسلام السمحة إلى الآخر الذي يعتنق وجهات نظر مسبقة "معلبة"، ضد الإسلام والمسلمين، وكانت وجهة نظره أن تكون الرسالة بلغتهم ويؤديها نجوم منهم ويحظون بمحبتهم مثل أنطوني كوين، وهذا ما جعل بالفعل رسالة فيلم "الرسالة" تصل إلى الآخر، وهو الأمر الذي قال عنه الداعية الإسلامي السعودي عائض القرني: فيلم الرسالة نفع المسلمين أكثر من مئات التفجيرات التي أساءت لنا ولديننا وشوهت سمعتنا وأغلقت مراكزنا (في الغرب) وجرَّت علينا أساطين القوات الغربية إلى بلادنا وإلى محيطاتنا، بينما فيلم الرسالة أوصل صورة محمد ص الحقيقية، وأسلم ألوف من البشر بسببه.
لكن هذه الرسالة كان لابد لها من جهود عظيمة تُبذل لصياغتها على أكمل وجه، وأسباب نجاح فيلم الرسالة كثيرة، لكن من أهمها نجاح المخرج مصطفى العقاد في توجيه جموعه واستخراج مشاعرهم الحقيقية واستغلالها داخل سياق الفيلم لتوصيل رسالته كاملة. وهو أمر ليس بالهين ويدرك صعوبته العاملين في المجال، فأن تجعل العشرات يقفوا أمام الكاميرا ومعظمهم ليسوا محترفين، وألا ينظر أحدهم إلى الكاميرا ولو للحظة واحدة خارج إطار المشهد، هو أمر عظيم.
وهذا ما قاله العقاد بالنص "من أصعب الأمور التي تواجه المخرج تعامله مع الأطفال والجموع والحيوانات"، لكن هذه العقبات جعلته يبحث عن أكثر من حيلة لاستخراج المشاعر والأوضاع المطلوبة، فكان من ذلك مثلا: حركة وخطوات الناقة التي تمثل دور ناقة الرسول ص خلال حركتها لاختيار موقع المسجد في المدينة المنورة، نظرات الناقة وتأملها وكأنها تبحث بالفعل، وكأنها تتلقى أمر سماوي.. أخذ جهد كبير وفنيات كثيرة مع تحايل استغرقهم الكثير من الوقت ومزيد من الصير.
ويقول العقاد المواقف كثيرة أثناء التصوير، منها مثلا شخصية وحشي قاتل حمزة في الفيلم، هذا الشاب ليس بممثل، إنما هو كهربائي في الأوتيل الذي نزل فيه العقاد قبل التصوير، وعندما شاهد نظرات عيون الشاب الحادة القوية استدعاه وسأله هل يريد التمثيل؟ ووافق بالطبع، ثم كانت مرحلة تدريبه حتى أتى وقت التصوير وبينما الشاب يسعى بين الجموع في المعركة للوصول إلى حمزة وقتله برمحه، فإذا بالعقاد يجد الجموع (غير محترفي التمثيل) تعوق الشاب ولا تسمح له بالمرور، ولما سألهم بعد إعادة التصوير ثلاث مرات، أجابوه بأنهم كيف يتركونه يقتل حمزة عم الرسول، هذه العقيدة بداخلهم كانت فطرية بدرجة أضفت الكثير من المصداقية إلى العمل.
وفى مشهد غزوة أحد عندما يصدر الرسول ص أمره بالانسحاب، فإذا بالعقاد يجد الجموع لا تنسحب، وبالرغم من إعادة تصوير المشهد عشر مرات إلا أن الجموع ترفض الانسحاب في كل مرة، ويقولون لن ننسحب وسوف ننتصر (عاشوا الشخصيات الحقيقية وأرادوا الانتصار لها).
ويُكمل العقاد عن تعامله مع المجاميع عند الانتصار ودخول مكة، هو يريد منهم جميعا تعبيرات عن فرحة ونشوة الانتصار، وهو أمر مستحيل مع كل هذا العدد، فكان أن تحايل على الجموع بأن أخبرهم بأن الغد لن يكون هناك تصوير بمناسبة يوم الاحتفال في المغرب (حيث التصوير) بميلاد الملك الحسن الثاني، وأنه سوف يأتي بهذه المناسبة بقائد قوات الجيش المصري الذي عبر القناة، وقائد قوات الجيش السوري الذي عبر الجولان (التصوير كان بعد انتصارات أكتوبر) والقائد المصري والقائد السوري سوف يقولون كلمة بهذه المناسبة، ثم قام المخرج وفريقه بتجميع كافة الجموع في المكان الذي سيتم فيه تصوير مشهد دخول مكة، ثم وضعوا منصة كبيرة وتحتها كاميرات مخبأة لتصوير الجموع على طبيعتهم، الفنان عبد الله غيث كان قد وصل من مصر ولم يصور دوره بعد فألبسه ملابس ضابط مصري، وطلحت حمدي السوري ألبسه ملابس ضابط سوري، ثم أتوا بهما في سيارات خاصة على مسافة ميل ومعهم عساكر مع مراسم استقبال كبيرة.. وكانت الجموع تنتظر الأبطال (أبطال الحرب) على شوق رهيب، تعبيرات وجوههم وانفعالاتهم كانت رهيبة، حتى إنهم حملوا السيارة التي يتواجد بها الضابط المصري من فوق الأرض في سعادة لا توصف، والكاميرات تسجل كل هذه التفاصيل لاستخدامها في الفيلم، ويضيف أن عبدالله غيث أخبره بأنه 40 سنة على المسرح ما خاف من الجمهور مثل خوفه من هذا المشهد الطبيعي، فماذا يقول؟ ويطلب منه العقاد أن يقول ما حدث للجيش من التدريب والهجوم والضرب والمقاومة والانتصار إلخ، وصعد عبدالله غيث على المسرح والجموع أمامه تتأمله في ذهول وسعادة، إنه الضابط الذي عبر القناة، نظراتهم نحوه، تعبيرات النصر على وجوههم، فرحتهم، تأثرهم.. هذه اللقطة كانت تساوي مليون دولار على حد قول العقاد.
ثم كانت هناك خطبة الوداع للرسول ص، ورغبة العقاد أن تكون تعبيرات الجموع متأثرة باكية بشكل طبيعي وبدون تمثيل، فماذا يفعل؟
كان هناك ساحة كبيرة في مراكش بالمغرب، سوق كبير وفيه كل شيء، وفى السوق رجل حكواتي، يجلس وحوله الناس يحكي لهم قصص من التراث مثل قصة عنترة بن شداد، يقول العقاد، شاهدت الحكواتي وكيف أن الناس حوله في إنصات شديد متأثرين بما يقول، فسأله العقاد بعد قليل "هل تقدر تخليهم يبكوا؟"، ويجيبه الحكواتي "على قدر ما تدفع أبكيهم"، وافق العقاد واتفق معه، ثم أتى بالمجاميع وأوقفهم فوق الجبل الذي يمثل جبل عرفات حيث خطبة الوداع، وأخبروا المجاميع بأن الشيخ "حسن المكي" أتى من مكة خصيصا كي يلقي كلمة أمامهم، وتم إلباس الحكواتي ملابس شيخ مكي وفى طريقه ليصعد الجبل اقترب منه مصطفى العقاد وقبل يده في تبجيل، ليخلق حالة الوهم عند الجموع، ثم يصعد الحكواتي أمامهم الجبل وبدأ يحكي قصة آخر أيام الرسول ص، كان يحكي بأسلوب جعلهم في انصات وتأمل وتأثر شديد حتى البكاء.
وكانت مثل هذه اللقطات هي التي استخدمها المخرج العبقري مصطفى العقاد في الفيلم للوصول به إلى هذا المستوى العالمي.
التعليقات