بين ليلة وضحاها، أصبح عضو تنظيم القاعدة وما انبثق منه من جبهات صغرى مثل جبهة النصرة، وهيئة تحرير الشام، وجبهة فتح الشام، رئيسًا شرعيًا لدولة عربية صاحبة مجد وتاريخ طويل. ولم يقف الأمر عند التسليم فقط، بل لاقى كل الدعم من القوة العظمى الحامية، طبقًا للكلمات التي يندد بها رئيسها: الولايات المتحدة الأمريكية.
كنا بالأمس يحق لنا الخلاف حول ماهية الرغبات الأمريكية في تقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات صغيرة يسهل الإطاحة بها، وذلك عندما كان هناك فرق بين السياسة المعلنة والسياسة الخفية. فمنذ أن تم الإعلان، ولأول مرة، عن تأسيس حسن البنا لجماعة الإخوان المسلمين في عام 1928، والتي تُعتبر الجماعة الأم التي انشق منها جميع الجماعات الإسلامية المتطرفة فكرًا وسلوكًا في المنطقة العربية والعالم بأسره، والعلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والجماعة علاقة تحاوطها الشكوك. فكان المرئي بالنسبة للعامة أنه لا يمكن حدوث وفاق بين جماعة ناشئة تدعو إلى عودة الخلافة الإسلامية وائتلاف المنطقة العربية من جديد، وقوة عظمى معادية للإسلام وللائتلاف. ولكن بعد مرور السنوات وزيادة الوعي باكتشاف حقيقة كلتا الجبهتين، وجدنا نقطة التواصل بينهما.
لقد أدركت الولايات المتحدة الأمريكية حقيقة جماعة الإخوان المسلمين منذ يومها الأول، حيث لمست رغبتها في السلطة تحت راية الدين، وهنا اشتركت المصالح؛ فالرغبة في السلطة تعني الوقوف أمام زعامات عربية قومية أمثال الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، والمناداة تحت راية الدين تعني الوقوف أمام الفكر الشيوعي الملحد، أي نفوذ روسيا في المنطقة. فلم ترَ أمريكا غضاضة في السماح لها بممارسة نشاطاتها، وإن احتاجت للدعم فستجده، حتى أصبحت العلاقة معلنة إلى حد تدخل أمريكا في اختيار مرشد الجماعة واجتماعهم في السفارة الأمريكية بين حين وآخر.
واستمر الحال على وفاق دائم، ولكن هذا لم يكن مع كل الجماعات المنبثقة عنها؛ فعلى كل حال، هذا وفاق اجتماع مصالح وليس وفاق فكر ومبادئ. فعندما قرر عضو جماعة الإخوان المسلمين، أسامة بن لادن، تأسيس تنظيم القاعدة بالمبادئ نفسها من معاداة الشيوعية والشيعة وما إلى ذلك، كان الأمر مستتبًا، إلى أن بدأ التنظيم في أنشطة معادية لمصالح أمريكا، وهنا تم تصنيفه كتنظيم إرهابي، وتم نسب أغلب العمليات الإرهابية التي حدثت في العالم الحديث إليه. وأخذت أمريكا وجوده حجة لتحقيق العديد من أحلامها؛ فأعلنت وجود صلة بين التنظيم ورئيس العراق الأسبق صدام حسين واشتراكهما معًا في حادث 11 سبتمبر الشهير، ومن ثم تبرير أحقيتها في غزو العراق. كما هاجمت دعم طالبان لتنظيم القاعدة وحمايته لبن لادن، ومن ذلك تبرير غزو أفغانستان.
ومنذ التخلص من بن لادن، ومن نائبه أيمن الظواهري من بعده، خفت نجم تنظيم القاعدة من الوجود، فبدأ في ممارسة أنشطته تحت مسميات أخرى مثل جبهة النصرة، وجبهة فتح الشام، أو هيئة تحرير الشام، الحاكمة لسوريا الآن تحت قيادة الرئيس "الشرعي" أحمد الشرع.
والذي منذ أن خطا أولى خطواته في مرحلة الشباب، وهو متبنٍّ فكر الجماعات الإسلامية باختلاف المسميات، ولكننا، وفي سلسلة مستمرة من المفاجآت، رأينا الدعم والترحيب الموجه إليه من القوة العظمى. كما أعلن الرئيس أحمد الشرع مباركته لصاحب صفقة القرن على عودته إلى البيت الأبيض، معلقًا: "نثق أنه القائد الذي سيجلب السلام للشرق الأوسط".
يمكننا القول الآن، وبقوة، إن ما يحدث في سوريا اليوم لا يختلف عن النهج المبعثِر الثابت الذي سارت على خطاه العديد من الدول العربية التي فتكت بها الفتنة. فالفتنة بين فتح وحماس هي التي حالت دون تجمع الفلسطينيين حول كلمة واحدة، وهي السبب في كل معاناتهم إلى الآن، وكذلك الفتنة في السودان، وليبيا، ولبنان، وغيرها. ولا يزال هناك من يعتقد في أطراف الفتن خيرًا، ولكن الخلافة الإسلامية التي انتهت بسبب الفتنة العظمى لن تعود بفتنة أخرى. لن تعود إلا باتحاد العرب جميعًا تحت قيادة زعيم قومي واحد. لن تعود إلا بعدما يصبح خير العرب للعرب، وخير المسلمين للمسلمين. لن تعود إلا عندما ندرك أن وحدتنا قادرة على زلزلة كيان أي دولة، وإن كانت قوة عظمى.
ويبقى السؤال المطروح: هل حلم تقسيم الشرق الأوسط غالٍ لدى أمريكا إلى حد التواطؤ مع العدو، أم أنه لم يكن عدوًا من البداية؟!
التعليقات