إن ضاقت بنا الدنيا وصعُبت المهام، أفقدنا الشغف؟ أم أننا عندما نفقد الشغف تضيق بنا الدنيا وتصعب المهام؟
شئنا أم أبينا، لا يمكن إنكار وجود خلل واضح في إنسان العصر، بمجرد مقارنة إنتاجيته بإنتاجية من سبقوه، رغم اختلاف الإمكانيات.
كيف استطاع الإنسان القديم بناء حضارات تبهرنا بتفاصيلها الغامضة حتى يومنا هذا، على الرغم من أننا اعتدنا أن نسخر مما صُنع بالأمس ونصفه بالرتابة بعدما جار عليه الزمن؟
السبب أن الدافع كان مختلفًا؛ نحن نعمل لإنهاء المهام، أما هم فكانوا يعملون بحب وشغف. تخيل أنك استيقظت يومًا لتجد نفسك أحد عمال البناء في العصر الفرعوني، تُمضي يومك في نقل الصخور الضخمة لآلاف الأميال، لبناء بيت يحوي جثة الملك بعد وفاته! أو أنك فنان مكلف بالنقش والتلوين، أو مكتشف لون لأول مرة، أو طبيب يبحث عن مسببات الأمراض وطرق الوقاية والعلاج قبل أن تُسمّى هذه العلوم، أو مهندس رسم تصميمات أعظم مباني التاريخ، فلم تقوَ عوامل الزمن على هدمها. أو أنك شخص تَعبّد للخالق قبل أن يأتيه البرهان، أو أدرك للمرة الأولى أنه لا تضارب بين العدل والمساواة، وبين وجود حاكم له السلطة المطلقة وكلمة الفصل، مع حاشية من اختياره وحده تساعده في الحكم.
واليوم، نرى طالب العلم يذهب متأففًا إلى جامعته التي تقدم له العلم بجرعات منتظمة كأنه دواء، بلا بحث أو مقارنة أو عناء. فهل تعلم أن القدماء درسوا بغير مصدر ثابت؟! ونرى أساتذة الجامعات يتعاملون مع أبحاثهم وكأنها أسرار حربية لا يجوز لأحد الاطلاع عليها حتى تُدفن معهم، لئلا يستفيد منها غيرهم فيتقدّم عليهم! فهل تعلم أن القدامى كانوا يبحثون عن حبر لا يسيل، وأوراق لا تهلك لآلاف السنين، ليضمنوا بقاء أعمالهم وعدم ضياع أعمارهم هباءً؟
نرى الشباب اليوم غير قادرين على تحصيل العلم، ولا راغبين في عمل شاق، ولا يسعون لتطوير مواهب أنعم الله بها عليهم، ولا يطمحون لأكثر من نومة هانئة في سرير دافئ، مع هاتف وإنترنت سريع، ومكان لشاحن الهاتف بالقرب منهم، والكثير من الطعام والمنبهات!
ويبقى المبرر الدائم: فقدان الشغف. فهل الشغف شيء مادي يوجد أو يُعدم خارج إرادتنا، أم أنه شيء نصنعه بأيدينا؟
أنا أؤمن بوجود الشغف، لكنه بأيدينا نحن. إذا زرعت الدافع ورويته باستمرار، قاصدًا وجهتك في نهاية الطريق الصعب، فستهون كل الصعاب، وستصبح كل لحظة من وقتك غالية، حتى إنك ستندم على ضياعها.
فلمَ البكاء وكل شيء في يدك؟ إذا أردت النجاح، فتخيّل لحظته، فهذا وحده كفيل بزيادة جهدك وتخفيف تعبك. اختر ما تحب لتعمل به بشغف، فالإبداع يأتي مع الحب، ولا تقضِ عمرك في مجال سيقيّدك، فتعيش تعيسًا بلا إنجاز. وإذا كنت تطمح إلى ذكر وسيرة طيبة، فانظر لمن رحلوا منذ مئات السنين وتأمل أثرهم، ثم قرر مصيرك.
تلك هي نجاة الدنيا، أما نجاة الآخرة، فلا تكون إلا باتباع تعاليم الله، بغير تذمّر أو تأفّف؛ فالعبادة لك، لا للخالق، فالله غني عن عبادتك، لكنك أنت المستفيد منها، فهي تهذّب نفسك في الدنيا، وتُعينك على الفوز بالجنة في الآخرة.
إذن، لا تنتظر الشغف ليأتيك، بل اصنع دافعك بنفسك، وسيتكفّل هو بأمر الشغف، لتحيا حياة تليق بإنسان هذا العصر، وتستحق أن تُذكر في التاريخ بعد سبعة آلاف سنة من الآن!
التعليقات