ليست المرة الأولى التي تتركه فيها خلفها، لكنها كانت المرة الأقسى.
خرج من السيارة يحمل أوراقه، يرتّب أفكاره، يستعدّ لامتحانٍ قيل له إنه مصيري.
شابٌ ناضج، كتفاه عريضان، عيناه واثقتان…
لكنها، من خلف المقود، كانت ترى ما لا يظهر.
لم تترجل معه، لم تُمسك يده كما كانت تفعل في صغره، لم تلوّح له أمام الباب…
فهذا زمن مختلف، وهو لم يعد طفلًا.
لكنها، قبل أن يبتعد، ثبّتت نفسها.
كأنها تقف على حدٍّ بين الأمومة والعقل.
لم تترك له سوى دعوةٍ في القلب، ونظرة مطمئنة أرادت أن تقول:
"أنا واثقة بك… فلا تلتفت."
وفي داخلها، كانت ترتجف.
تذكرت فجأة صباحات الروضة القديمة، حين كان البكاء يُكسر فيها مرتين:
مرّة من عينيه، ومرّة في صدرها.
كانت تبتسم وقتها، وتلوّح، ثم تبكي في الممرّ الخلفي كي لا يراها.
كانت تقول له: "ستعود إليّ بعد قليل"، وتقول لنفسها: "كيف أعيش هذا القليل؟"
أما اليوم، فالبكاء لا يظهر، والدمع لا يُقال، لأنها لا تريد أن تُربكه، لأنها تعلم أنه قوي بما يكفي…
لكنه، في نظرها، لا يزال صغيرها.
يا الله… كم تمنت لو كانت هي التي تواجه ذلك الامتحان، كم تمنت لو كانت الحروف تُكتب بدلًا منه، والساعات تمرّ عنه، لو كان القلق والتعب من نصيبها وحدها.
"لو أستطيع أن أحمل عنك كل صعب، لفعلت"، همست في صمت السيارة.
"لو أستطيع أن أكون ظلّك في كل مكان تمضي إليه، لكنت."
لكن الأمومة، في أقسى معانيها، أن تتعلّم متى تتقدّم ومتى تتأخّر، متى تُمسك بيده ومتى تتركه يخطو وحده، متى تكون الحضن ومتى تكون المسافة التي تُعلّمه القوة.
هي لم تقف معه عند البوابات، لكن قلبها لم يتحرّك من هناك.
هي غادرت، نعم… لكن الخطوة ثقيلة، والصوت في داخلها يصرخ:
"لو تعلم كم أحتاج لاحتضانك الآن… لا لتطمئن، بل لأطمئن أنا."
فهو لا يعلم أن أقسى لحظات الأمومة، ليست لحظات المرض أو السهر أو الخوف المباشر، بل لحظة تخلع فيها الأم قلقها أمامه، وترتدي ثوب الثقة، فقط لتُعطيه الأمان.
لحظة تبتسم فيها وهي تنهار، تشجّعه وهي محتاجة للتشجيع، تقول له "كل شيء سيكون بخير" وهي لا تعرف كيف ستعيش الساعات القادمة.
أطول من كل الطرق.
ولأنها أم…
فقلبها لا يعرف الانفصال حقًا، بل يتمدّد ليصل إليه أينما كان، يدق معه في كل لحظة توتر، يفرح معه في كل لحظة نجاح، ويبقى معلّقًا بين الأرض والسماء حتى يعود.
هو مشروع عمرها، نعم…
لكنه أيضًا القطعة التي انفصلت منها لتصبح إنسانًا مستقلًا، والحلم الذي كبر ليصبح حقيقة تمشي على قدمين.
ولأنها أم…
فحتى حين تمضي، تظلّ خلفه، تمشي به دعواتها، ويحفظه ظلها، وتبقى صورتُه في مرآة السيارة
"خطى القلب خلفك وإن مضت قدماي"
فبعض الخطى لا تُقاس بالمكان، بل بالحنين العالق في كل مسافة بيننا
التعليقات