في ٤ مايو ١٩٩١، توفي فنان الشعب الملحن والمطرب والممثل محمد عبدالوهاب، وهذا بعد أن أفنى حياته في خدمة ما أحبه قلبه وقنع به عقله.
رحل محمد عبدالوهاب صغيرا مع والديه وإخوته من مسقط رأسه بمحافظة الشرقية ليستقروا في حي الشعرية بالقاهرة حيث قضى معظم أيام حياته، ورث صوته عن أبيه الذي كان مؤذنا ومُقرئا طوال حياته، فأرسله والده إلى الأزهر ليكون وريثه في كل شيء، ولكن سرعان ما أهمل دراسته وانشغل عنها بالغناء والموسيقى التي أخذت بعقله منذ الصغر متمثلة في الشيخ سلامة حجازي وصالح عبدالحي وغيرهم من مطربي تلك الحقبة، رفض والده تركه للدراسة في الأزهر من أجل الغناء فأخذ يغني بدون علم والده ثم هرب مع فرقة إلى دمنهور عندما علم والده بأمره، ولكنه عاد إلى منزله في النهاية ليرضخ له والده موافقا على غنائه لتبدأ المسيرة.
أخذ يتنقل بين الفرق الغنائية مرة والفرق المسرحية ليغني في الفواصل مرة أخرى، ليراه الشاعر أحمد شوقي والذي أخذ تعهدا من الفرقة بمنعه من الغناء مرة أخرى في مثل هذا السن الصغير؛ ليذهب عبدالوهاب تاركا الغناء ليدرس العود في معهد الموسيقى العربية وتدور الأيام ليجد نفسه مطربا لحفل يحضره أحمد شوقي والذي سعد لسماعه وأبدى إعجابه، ليذكره عبدالوهاب بنفسه، ليتبناه أحمد شوقي معلما إياه لقواعد الحياة الراقية من طريقة الكلام وطريقة تناول الطعام حتى أنه جلب له من يدرسه اللغة الفرنسية وقدمه لكبار الصحفيين والسياسيين وقتها كطه حسين والعقاد وسعد زغلول، وقام عبدالوهاب بتلحين العديد من القصائد لأحمد شوقي مثل "مضناك جفاه مرقده".
بزغ نجم عبدالوهاب كملحن لدرجة تهافت كبار المطربين وقتها للعمل معه إلا السيدة أم كلثوم؛ حيث لم يجتمعا في عمل إلا بعد محاولات عديدة من الصحافة ومن طلعت حرب الذي أراد جمعهما في فيلم، ومن الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر حيث قيل أنه طلب منهما بشكل شخصي العمل معا لإنتاج المزيد من الإبداعات الفنية، لتكون أغنية "أنت عمري" أحد أشهر أغاني أم كلثوم وأقربهم إلى قلوب الجماهير ونُسب نجاحها إلى عبدالوهاب مع أم كلثوم ولُقبت بلقاء السحاب لكونها العمل المشترك الأول بينهما ولكنه ليس بالأخير حيث توالت الأعمال المشتركة بينهما بعدها.
في عام ١٩٧٤، جاء المؤلف حسين السيد بأغنية ليلحنها عبدالوهاب ويغنيها عبدالحليم حافظ وهي أغنية "فاتت جنبنا" تردد عبدالحليم من الفكرة لأنها مختلفة عن سابق أغانيه المليئة بالأحاسيس ووصف المشاعر بين حب وفراق، فكيف سيتقبل منه الجمهور غناء قصة ملحنة بتتابع أحداثها وانتظار نهايتها؟ وعلى النقيض تماما تحمس عبدالوهاب للفكرة لأنه سبق وأن قدمها ونجحت في أغنية "ساكن قصادي" لنجاة الصغيرة والتي كانت من تأليف حسين السيد أيضا، ليأتي يوم تقديمها إلى الجمهور على المسرح لينطلق عبدالحليم مع صمت الجمهور حتى الوصول إلى نهاية القصة في قوله: "وجاني الرد جاني ولقيتها بتستناني! وقالت لي أنا من الأول بضحك لك يا أسمراني." ليهلل الجمهور فرحا مبشرا بنجاح الأغنية ليضحك عبدالحليم ناظرا خلف الكواليس حيث يقف البطل الخفي عبدالوهاب.
وبالإضافة إلى نجاحه كملحن لاقى نجاحا وحبا كبيرا كمطرب بتقديمه العديد من الأغاني المميزة المختلفة السابقة لعصرها، حيث عمل على تطوير الموسيقى الشرقية بشكل ملحوظ مثل حالة أغنية "يا مسافر وحدك" حيث قال أنه طور فيها لدرجة إدخال ما يعرف بالصاجات الإسبانيولية، حيث روى كيف تحولت الصاجات النحاسية العربية إلى الكستانيت أي الصاجات الخشبية الإسبانية حيث قام الموسيقي الشهير زرياب بنقل الصاجات العربية من العرب وتطويرها في بلاد الأندلس، أي أن الصاجات الإسبانيولية تطور موسيقي دولي عربي الأصل، كما قال أن العود العربي هو الأساس الذي بُني عليه جميع الآلات الوترية المشهورة كآلة الكمان.
يحدث في ذكرى الوفاة في أغلب الأوقات؛ إعلان الحداد وذكر المحاسن رغبة في إبقاء ذكر الراحل، ولكن في مثل هذه الحالات؛ من رحل وترك وراءه ما يُذكر ولا يُنسى؛ من رحل بعد أن تمتع وأمتعنا بفعل ما أحب في حياته؛ فوجب تذكره بلطف وسعادة، فهنا عاش وهنا مات الموسيقار محمد عبدالوهاب.
التعليقات