لم ولن يجتمع الناس على حب شخص أبدا، فلو كان اتفاقهم ممكنا لاجتمعوا على حب النبي الذي جاءهم بالحق، فعلى الرغم من صدق الأنبياء وإخلاصهم وإيمانهم لم يتمكنوا من نيل حب الجميع، فلا داعِ لغضب أو ثورة كلما رأى أحدهم كرها لمن أحب.
ومن الجدير بالذكر أن في عصرنا الحديث ما اجتمع كثير من الناس على عشق رجل واحد مثلما حدث مع الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر، لم يقتصر حبه على شعبه فقط ولا حتى على شعوب الوطن العربي بل كان حبه في قلب كل إنسان آمل في حرية واستقلال وطنه، كان ظاهرة أكثر من كونه إنسانا، رأى فيه الأبطال المثال الواجب الاحتذاء به، رأى فيه الحالمون رمزا للتضحية والفدائية وحب الوطن، ورأى فيه عامة الناس ما جعلهم يؤمنون بكونه القائد كما يجب أن يكون؛ حيث القوة والشجاعة والبسالة والصمود أمام الأقوى مهما كانت النتائج.
وإذا انتقلنا من العموم إلى الاختصاص، حيث شعب مصر لوجدنا ألف مبرر إن لم يكن أكثر لمثل ذاك الحب، فبعد سنوات من التبعية التي من سماتها الذل والامتهان، جاء رجل فأنهاها وأبدلها بالندية، مثلنا مثلهم، فكان أول ما غيره هو مطالبة القوى الكبرى بالحديث معه شخصيا عن ما يخص شؤون البلاد بلا وساطة فلا وصاية علينا من أحد.
طوال مدة حكمه لم يعلُ صوت على صوته ولم تُنطق كلمة بعد كلمته، فكان كلامه أوامر ووجهة نظره هي الصحيحة بلا تفكير ولا مناقشة، فإذا قال قيل سمعا وطاعة، حيث كان يؤمن الجميع أن لا وجود لرأي أكثر صحة من رأيه ولا لعقل أكثر رجاحة من عقله، فعندما اختلف مع نوري السعيد رئيس وزراء العراق آنذاك، حول حلف بغداد حيث انضمت العراق إلى الحلف ورفضت مصر، ولم يعلق عبدالناصر على ذلك فلكل دولة حقها في اختيار سياستها، ولكن عندما بدأ نوري السعيد بمحاولات لضم الدول العربية إلى الحلف جاءت الوقفة من عبدالناصر مناشدا الأمة بمعرفة عدوها الأساسي وتسليط القوة العقلية والمادية عليه، وعدم خلق عداء مع من لم يتجنَّ بشيء على الوطن العربي وهو الاتحاد السوفييتي، فكانت مناداته تلك أحد أهم أساب فشل الحلف، بداية من انقلاب ١٤ يوليو ١٩٥٨، والذي انتهى بإسقاط النظام الملكي وقيام الجمهورية العراقية مع انسحاب العراق من حلف بغداد رسميا بعد مقتل نوري السعيد، وختاما بحل الحلف نهائيا عام ١٩٧٩.
وفي يوم ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠، رحل عبدالناصر عن عالمنا تاركا إرثا لا يُقدر بثمن دُفع ثمنه بالكفاح والنضال وبالدم أحيانا أخرى، ولكن سرعان ما تحول الهتاف إلى هجوم فلولا العلم بأن حب الناس لعبدالناصر كان حبا صادقا نابعا من القلوب وليس من الألسنة مثلما يحدث مع الحاكم الديكتاتوري؛ لقلنا أنهم طبقوا مبدأ مات الملك عاش الملك.
وإذ فجأة تحول كل خير لشر وكل حسنة إلى سيئة فكل ما مُدح عليه ذُم عليه، صار حبه للسلام ضعفا واستسلاما، صار سعيه في المساواة بين الفقير والغني خلقا لصراع طبقي لم يكن له وجود، صار رفضه لأخذ قوة عظمى عدوة لمصر دعما للشيوعية، أصبح الاستثمار والتطوير اختلاسا وتبديدا.
كثرت الأقاويل وانقسم الصحفيون إلى قسمين كبيرين بين مؤيد ومعارض، وأقسام صغيرة تتخلل كل قسم فهناك معارض لشخصه وهناك معارض لسياسته، وهناك مؤيد لمواقفه وأفكاره وهناك مؤيد لشخصه وهذا أكثرهم قوة وشجاعة لأن الحب هو أكبر حافز في الحرب.
طالما كان الشخص مؤيدا كان أم معارضا مخلصا في أفكاره وآراءه؛ حيث توصل لها بتفكيره وبرقابة مبادئه فله الاحترام، وإن لأصعب أنواع التزييف هو جعل القلم أداة له، فما يُقال وجها لوجه مصحوبا بنبرة الصوت المتحولة وحركة الأيادي وانطباع كليهما على الوجه من نظرة وخلافها سهل تزييفه لكثرة ما بيد المتحدث من أدوات، وما يُقال سمعا تقل سهولة التزييف لقلة الأدوات ولكنها ما زالت سهلة، ولكن عندما ترى كلاما على ورق مجردا من أي مشاعر أو روح تقرأه بطريقة أو بأخرى مرة وعشرة، لا يمكن أن تنخدع، فإذا قرأت بلا تسليم كلي للعقل ستصل لا محالة إلى معرفة حقيقة الكاتب صادقا كان أم مأجورا.
عندما عارض الكاتب الكبير توفيق الحكيم العديد من مواقف الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر في وقت كانت القلوب تفيض له حبا، برر ذلك أنه رفض التقرب من عبدالناصر حتى لا يقع في حب شخصه فيشوب ذلك رؤيته للحقيقة، ليس تخوينا ولكنه رأى أن مسئوليته ككاتب يثق به الناس تتطلب ضمان الحيادية، ومع ذلك لم يهاجمه يوما لشخصه بل كان مؤمنا بدوره القومي العظيم وأنه البطل الذي سبق وتحدث عنه في قصته "عودة الروح" ولكنه رأى أن لكل إنسان أخطاء وأن لا أحد فوق النقد والحساب أيا كان، وعلى الرغم من ذلك لم يسلم توفيق الحكيم من المؤيدين، فهاجمه الكاتب الصحفي المؤيد الأشهر على الإطلاق محمد حسنين هيكل، حيث كان قرينا لعبدالناصر في الاجتماعات والمؤتمرات والإجازات أيضا، ولكن هل هذا يؤخذ لصالحه أم ضده؟ يؤخذ لصالحه من جهة أنه يعلم الحقيقة أكثر من أي أحد بسبب قربه من مصدرها، ويؤخذ ضده من جهة أن تأييده يمكن أن يكون مبالغا فيه بدافع الحب الشخصي، مع استبعاد فكرة التأييد للمصلحة الخاصة لأن كل هذا حدث بعد وفاة عبدالناصر فكان العقل ينادي بمجاراة التيار الجديد.
صدق المؤيد والمعارض لا يجزم بصدق التجربة فأكثر ما يحدث في الحرب الباردة هو خلق أسباب للمجادلة والنزاع والتشويه بلا معرفة مصدرها الحقيقي وعندما يكون طرفا الصراع ممن يُشهد لهم بالصدق والعزة فلا مجال للبحث وراء هذا المصدر.
بين اجتهاد وآخر لا يجب أن ننسى الحقائق المُسلم بها أن لا أحد فوق النقد والحساب.
وللحديث بقية ...
التعليقات