بالأمس لمحتها فشاهدتها، وكأنها جاءت لتذكرني بنفسها. لطالما أحببت مسرح الأستاذ محمد صبحي بما يقدمه من مناقشات لقضايا اجتماعية وأخلاقية مغلفة بكوميديا راقية لينجح في أسر قلب الصغير والكبير، وجذب عقل من أراد الفكرة إلى جانب الضحكة.
مسرحية الهمجي من بطولة الأستاذ محمد صبحي والفنانة سعاد نصر والفنانة هناء الشوربجي والفنان ممدوح وافي، ومن تأليف من برع في تشكيل ثنائية ناجحة مع بطل المسرحية وهو المؤلف لينين الرملي، عُرضت لأول مرة على الجمهور في عام ١٩٨٥ واليوم وبعد سنوات طوال نجد لها جمهورا ينتظرها ويهواها ولكنها تستحق أكثر من ذلك تستحق جمهورا من كل جيل، تستحق أن يراها جيل الألفينات فهي لم تمت، وما زالت قادرة على تغذية العقل وترفيه النفس.
في إبداع غير مسبوق قدمت المسرحية نموذجا للصفات المكروهة لدى البشر كالكذب والفتنة والشك والخيانة ومناقشة ما إذا كانت موروثة أم مكتسبة، أي إذا كانت حالة الإنسان تتطور مع الزمن نحو الأفضل أم الأسوأ، مع تصوير ما يدور بداخل الإنسان من تأرجح بين الخير والشر حيث صور الصراع الدائر بين الملائكة والشياطين في لحظة ضعف وعجز لحظة صمت وخضوع من الإنسان، وكأنه يتنظر انتهاء صراعهم ووصولهم إلى قرار لكي يفعلها بلا تفكير أو نقاش، الإنسان الذي جاء باسم "آدم عبد ربه" وهو اسم شخصية البطل والذي يُغني عن أي تفسير.
ليجد البطل في النهاية أنه يفعل الخطأ ولا شيء غير الخطأ كذب الكذبة وصدقها، صدق غناه وهو لا يملك ثمن وجبة عشاء له ولزوجته، شك وخان لأن للشيطان دائما أساليبه المقنعة التي تودي بالإنسان لارتكاب الخطأ وهو مقتنع به، وعندما اكتشف في النهاية أفعاله الخاطئة ومعرفته بضرورة استخدام عقل يفرق ويقرر بدلا من السير وراء الشيطان، اختار أن يستغنى عنه بعقل اصطناعي مُبرمج على الاختيار بين الخطأ والصواب ليصبح على ما أراد حيث لا يخطئ ولو أراد ولكنه لم يصبح إنسانا لا يخطئ لأنه فقد كينونته كإنسان، فعند وجود جهاز إنذار يرسل إشارات تنويه بالصواب والخطأ فإن العقل بدوره في الاختيار يضمر، عندما يمنع جهاز الإنذار وصول أي مؤثرات من القلب بمشاعره إلى العقل حتى لا يؤثر في اتخاذ قراراته فإن القلب يضمر، أي يتحول الإنسان إلى آلة عندما يكفر بخلق ربه له بعقل وقلب، بتأرجح واتزان، بخير وشر، بذنب فتوبة.
فعندما أُزيل عنه لعنته المسماة بالعقل الاصطناعي الذي جعله من وجهة نظر مخترعه أكثر حضارية، لامس بداية ضمور أعضائه ليبدأ التعبير بصرخة حزن ثم فقدانه القدرة على الاتزان متأرجحا على خشبة المسرح وكأنه مؤدٍ استعراضي حتى يقع على الأرض، ثم يفقد بالتدريج القدرة على الكلام في مشهد يحبس الأنفاس، ثم يبكي في عجز تام وكأنه مقيد ينتظر نهايته، ثم تأخذ ابنته بيده لتقل له "أنا أعلمك" تعلمه نطق الحروف الأبجدية ثم تسنده لكي يتعلم المشي في رحلة لإحياء الإنسان بداخله من جديد، ليخرج الملائكة والشياطين لاستكمال الصراع ليجد أن الشياطين الذين أوصلوه لتلك الحالة هم أول من لاموه وفرحوا في كفره وأرادوا منه الاستسلام للنهاية، والملائكة شجعوه ليتذكر حقيقته بنفسه، حقيقة تميزه بالعقل والقدرة على الاختيار، فلا وصول إلى بر الأمان إلا من طريق العذاب وهذا ما كُتب على بني آدم ولا مفر منه، وجب على الإنسان معرفة الخطأ ليجاهد نفسه عنه ومعرفة الصواب ليسمو بروحه إليه.
"يا إنسان العصر، يا سيد هذا الكون، عمرك بلغ مليون، وأمجادك.. تفوق الحصر وبعد برد، وضنى وحرمان، سكنت ولبست وشبعت وحطيت كمان برفان والآن.. معادش لك حجة بإن الشيطان أقوى، ماعادش لك عذر الآن.. إتقدم، وهات برهان، يثبت إنك بحق لم تعد حيوان، وإنك تستحق، لقب إنسان."
التعليقات