من زمن بعيد كانت حركة التجارة العالمية مختلفة عن شكلها الحالي. بقدر ما كانت التجارة مهنة تدر المال الوفير وتغير شكل حياة الناس وتجعلها أكثر راحة، لكنها كانت تحمل الكثير من المخاطر كالسرقة والنهب والسلب أو الإفلاس وأحيانا القتل.
لم تتوقف التجارة رغم المخاطر العديدة، لكن العامل المشترك في كل القوافل التجارية أنك كنت تعد العدة جيدا قبل أن تأذن للقافلة بالرحيل.
مهما كلفك الأمر من مصاريف ورجال وانتظار الوقت المناسب من السنة، وتأمين العتاد والماء والغذاء والحيلة المناسبة وربما بعض الاتفاقات مع قطّاع الطرق لمرور بعض القوافل دون غيرها.
العديد والعديد من الخطوات اللازم إجراؤها، بعدها تترك كل ما تملك بين يدي الله ليختار لك الظفر والنجاة أو النهب وضياع الممتلكات التي ربما تكون كل ما ملكت يوما ما.
وتستمر الحياة … وتستمر المكاسب والخسارات، لكن يا صديقي هل أعددت القافلة جيدا قبل أن تأذن لها بالرحيل؟
القافلة هي عمرك الحقيقي الذي امضيته وأنت على خير وليس تاريخ مولدك إلى يوم وفاتك، هي عدد الأيام التي كنت فيها سعيدا، هي سنوات الكد وأنت متأكد من الوصول، هي صنيعة يديك في الإتجاه الصحيح، هي فراش الزائرين الممهد في قلبك، هي التمسك بمن أحببت ودارا جاهدت عمرا بأكمله لبقاء قاطنيها في رحابة صدرك.
القافلة يا صديقي هي أظافرك التي انبرت وأنت تبني في نفسك وفي من أحببت، هي جهد مقاومة السيئات، عيادة الأحباب، جيرة الأصحاب وشظف مشاعرك وأنت تبحث عن مستحقاتك بين القلوب.
سيدي هل أدلك على أفضل عمل يعينك أن تشعر في أي وقت أن قافلتك جاهزة للرحيل … تَمَسَك بأصلك وأنت تفعل كل شيء.
لن يأتيك شيء لم يكن رزقك، لن تصل لمكانة لم تكن مقدرة لك، ولن يقترب منك قدر لم يكتبه الله لك أو عليك.
آفة زماننا أننا نتوقف كثيرا عند الفقد والوجع والألم، يظل عقلنا الباطن ينتحب على ندالة فلان أو خذلان علان، وبين هؤلاء وهؤلاء يمضي بنا العمر ونفقد سنوات كان أولى بنا أن تمتد في سعادات شخصية تعوض قلوبنا المتعبة خطوات السراب.
وأنت تعد قافلتك يا سيدي، أعد لنفسك أيام طفولية تضحك فيها من قلبك، لا يهمني كم أبدو تافهة، ولا أكترث ماذا يكون رأي الناس طالما اقتنصت لحظات صنعت لنفسي من خلالها السعادة.
وهل تدوم السعادة؟ بالقطع لا، لكنها تتغير صورها ومحطاتها في حياتك بما يناسب شخصيتك وعمرك ودرجة نضجك ووعيك.
أتعرف يا صديقي من هو المُعاق؟ هو ذاك الشخص الذي ينتظر من يأتي له بطاجن السعادة يملأ به شرهه روحه الضريرة عن صناعة الجمال.
في رحلتك الفردية ركز على كل نعمة محيطة، جدد إقامتك في قلوب أحبابك بكلمة حانية بتصرف نبيل بهدية "بوقفة رجالة"، بقدرتك على رؤية الجمال في من صاحبك رحلتك وبكل الصباحات التي قررت أن تعيش ساعاتها بجودة ولا تسمح لها أن تمر هباءا.
أما في رحلتك الجماعية، كن أنت، كن نفسك التي اعتركت الدنيا وبقيت صاحبة الخُلق الرفيع، كن حقيقي يتهافت الناس على صحبتك، احرص أن تبقى القلوب بالقرب منك آمنة ولو كنت طوال الوقت على عكازك، ادعو لغيرك بالبركة ولو زارك الحظ السيء، كن هذا الأصيل الذي إذا حل بقوم أفشى المحبة بينهم.
القلوب البليدة تُنهَب قوافلها!!
وأنت تعد قافلتك للرحيل استمتع!
لا تبكي على أطلال خساراتك، تعلم لغة الأرض التي تسكنها، ربما أنت تتحدث العربية في الصين.
ربما يؤلمك البعض لكنك اخترت ألا ترى النعم المجاورة للألم حتى أصبحت تستجلب هذا النوع التعيس من الحياة.
أتعرف كيف ينجو الغوّاص تحت سطح البحر … ينظم تنفس رئتيه حتى تأتيه أنبوبة الأكسجين الإحتياطية من خلال التحكم في انفعالاته وتقليل حركته ومجهوده الضائع حتى يصل المدد.
ودائما تأتي النجاة … دائما تأتي قبل أن تيأس وقبل أن تزهد وقبل أن تنقطع أنفاسك.
أحيانا عوار دنيتك يسببه نفس جائعة جامحة خسيسة لا يحرجها عين الله العادلة … لا يظلم ربك أحدا أبدا.
كل الساعات والأيام والسنوات التي كَسُلْت عن إقامة السعادة فيها، ستكون رصيد حسرتك عندما تغادر القافلة.
سواء طال بقاؤك أوقَصُر رتب لنفسك سنوات تقضيها في بناء السعادة لك ولأحبابك، لو وفقك الله تكون قد أعددت ما يسمح للقافلة بالرحيل بأمان.
أما إذا لم توفق بعد الجهد الكاف سيكون رحيل قافلتك مُشَرِف.
لا تأذن للقافلة بالرحيل قبل أن تتأكد أن كل ثانية قضيتها وأنت تحترم أقدار أسفارك، كنت دوما في معية الله.
كلنا سنرحل يوما ما، آمل فقط أن يكون رحيل من استحق شرف الحياة.
التعليقات