قادتني قدماي لمكان مهمل غلفه الصمت وتعهدته الأتربة بالرعاية فلم تفلته. كان يوما يحوي حيوات كثيرة. دخلت لأجد المكان مظلما موحشا وقد هجره أصحابه قهرا بموت بعضهم وطوعا بتبدل حال الباقين وانتفاء الغرض من التواجد فيه بعد أن رحلت الأم وتبعها الأب وطويت صفحة كانت يوما ملء السمع والبصر. انفرط عقدهم كمسبحة منتهكة فتفرقوا بعد اجتماع وتشتتوا بعد اصطفاف..
أكوام من الأثاث تراصت فوق بعضها البعض ومعها تراصت أكوام من الذكريات. نظرت مشدوهة للتراب الذي يعلو كل شيء وودت لو أستطيع مسحه عن وجه اليوم. آه لو تعلمين أيتها الأتربة أي حكايات تخبئين وأي ذكريات تخفين. احتضن هذا الأثاث حياة أب وأم وأربعة من الأبناء. هذه الكراسي وتلك الأرائك كانت متكئا لجلسات فرح وحزن. كم من ضحكات تعالت عليها وكم من دموع انسكبت. شهدت هذه الأريكة جلسات مطولة بين أب وابنته تستشيره في ما يؤرقها وتنهل من حكمته وخبرته وها هي الآن وقد تركت لينهشها حنين الماضي وينهش قماشها لوعة الحنين.
مزهرية بها آثار كسر قديم تم ترميمه خلسة بالاتفاق بين الأخوة بعدما كسروها رغما عنهم في أثناء اللعب. يومها تولى أحدهم مهمة إبقاء أمهم منشغلة بحديث تافه ريثما يتمون مهمة اللصق وكأن شيئا لم يكن. كم كانوا مترابطين وكم كانت مشكلاتهم بسيطة! تراصت السجاجيد فوق بعضها البعض دون اكتراث بما تحمله من خطوات خطاها أهل البيت وزائريه عليها يوما! خطوات نجاح وفشل، خطوات ثقة وتعثر. خطوات الطفل الأول والحفيد الأول وقفزات الأحفاد وسباقاتهم الصغيرة. شهدت دخول الأطفال يوم ولادتهم للبيت أول مرة والأم تحملهم بفرح وترقب كما شهدت خروجا منه بصحبة أزواجهم فرحا ببيت جديد يكون لهن نصيب تعميره. على هذه السجادة خطى الزوجان لبيتهما أول مرة ومن عليها تم تشييعهم محمولين على الأكتاف أيضا شتان بين الحالتين وإن كانت البساط واحدا.
هذا المكتب كان مرتعا لليالٍ طويلة من السهر والتعب والعمل المتواصل من أجل تحقيق التفوق في المدرسة ثم الجامعة. أما هذه الخزانة فحملت الملابس بلا كلل أو ملل. حوتها يوم كان حجمها لا يتعدى كف اليد ثم ترهلت وأصابتها التخمة من كثرة ما حوته من مستلزمات الشابات اليافعات. كبر الصغار وكبرت حاجياتهم. ملابس الرضع تطورت لفساتين وحقائب ومستحضرات تجميل. طاولة الطعام الحزينة التى لا تجد من يدفئها كانت يوما تعج بما لذ وطاب من أطايب الطعام بارده وساخنه. عليها اجتمعت الأسرة، والجيران والأصحاب وحولها تعالت الضحكات وتناثرت القصص والحكايات. هنا لعب الأحفاد وعلى هذه الأريكة سكبوا العصير يوما وصرخت الأم فيهم متوعدة وأنقذتهم الجدة بعدما لاذوا بها خائفين.
على هذا السرير بلغت الأحلام عنان السماء وعليه نام الحفيد الأول ونطق الحفيد الثانى بأول كلمة.
أكوام فوق أكوام من الواقع ومن الماضي. ليتنا نستطيع استخلاص الأيام الفائتة من بين ثنايا الأقمشة وذرات التراب. ليتنا نستطيع استحضار اللحظات الحلوة من بين أطياف الماضي. يقولون إنها سنة الحياة وأن دوام الحال من المحال لكنهم لم يخبروننا لماذا تبقى الذكريات عالقة عصية على النسيان؟!.
التعليقات