بالأمس، وأنا أمضي في دروب حياتي المعتادة، أسيرُ في خُطى الروتين بلا تفكّر أو انتباه، إذ انقضَّ عليَّ خاطرٌ كالبرق الخاطف، يشقُّ سكينة النهار شقَّ السيف:
لم أتصل بأبي منذ أن شدَّت أمي الرحال لتؤدي مناسكها المقدسة.
لم يكن ذلك مجرد اكتشافٍ عارض يمرُّ مرور السحاب، بل كان زلزالاً يهزُّ أعماق الكيان، ورجّةً عنيفة تصدع جدران الضمير. دهشةٌ مُباغتة تتلبّسني، مصحوبةً برهبةٍ صامتة تتسلّل إلى الأعماق، وكأنني خُنت أمانةً جوهرية في ذاتي قبل أن أُقصِّر في حق من أحمل اسمه.
جلست فجأة، والهدوءُ يطوّقني من كل جانب، لكنّ العاصفة في صدري تعصف عصف الأعاصير المدمّرة. كيف انسلّت هذه الأيام من بين يديّ دون أن أسأل عن أحواله؟ كيف لم أُعِدَّ له طعامه الذي يُحبّه، ولم أتفقّد شؤونه بصوتٍ حانٍ يُداوي وحشته، أو نظرةٍ عطوف تُؤنِس غربته؟
تملّكني يقينٌ جازم بأن الغضب يعتمل في فؤاده، وأن سُحُب السخط تُثقِل خاطره عليّ، وذلك أشدُّ ما أخافه وأهابه في هذا الوجود. فأنا لا أطيق أن أرى الضيق يعلو محيّاه، ولا أقوى على احتمال زعل أبي الذي أحبّه حبّاً يفوق طاقة البيان، ويتجاوز قدرة الأوصاف. حبٌّ يجعلني أرتعد فرقاً من مجرد تصوّر أن نظرةً مني قد تُضايقه، أو أن صمتي قد يُدمي قلبه الكبير.
لكن...
في خِضَمّ هذا التأنيب العنيف، وفيما الذكريات تتراقص أمامي، عاودني شيءٌ كاد يُخرِج الروح من مُستقرّها، ويُسقِط الفؤاد من مكمنه بين الضلوع:
أبي... انتقل إلى رحمة الله منذ عامين.
فكيف لروحي أن تنسى ما لا يُنسى أبداً؟ وكيف لعقلي أن يُخادع الحقيقة ويُراوغها إلى هذا المدى المُرعب؟ أهو الحبُّ الذي يأبى أن يُصدّق الفراق؟ أم الإنكارُ الذي يُحارب المحتوم؟ أم اشتياقٌ أبديٌّ متجذّر في الأعماق، لم يخبُ منذ لحظة الوداع الأخير؟
كنت أُعاتب نفسي على تقصيرٍ تخيّلته، فإذا بي أستفيق على تقصيرٍ من نوعٍ أشدّ وأمرّ: أنني لم أستوعب بعدُ حقيقة أنه لم يعُد بيننا جسراً من اللقاء، ولا طريقاً إلى العتاب والوصال.
وربّما، في هذا التخبّط الأليم وحده، ما يُفسّر كلّ شيء ويُوضّح المُعضلة. فثمّة غيابٌ لا يُدرَك بالعقل، ولا يُفهَم بالمنطق، بل يُحَسّ بالقلب، ويُعاش بالوجدان، ويُحمَل في الصدر كجمرةٍ لا تنطفئ... إلى الأبد.
التعليقات