عادل إمام:
- عشت أيامًا لم يكن في جيبي مليم ولم أشعر بالفقر
- المأساة قد تصنع كوميديا عظيمة
- النجومية يمنحها الجمهور ولا يصنعها الفنان
- أنا معجون مع المجتمع المصري بواقعه وألامه
- الشعب المصري فيلسوف السخرية والضحك
- ورثت الدم الخفيف من جدي بقال قرية "شها"
- كنت أفكر في العمل على ”تاكسي“ لتوفير متطلبات الحياة
منذ أكثر من 17 أُجريت حواراً صحفياً مع الفنان القدير عادل إمام، وفي تلك الفترة كان مُقلاً في لقاءاته الصحفية لدرجة أن البعض كان يُردد أنه لا يُجري حوارات صحفية، وقلت لنفسي وقتها لابد أن أقطع الشك باليقين، وقد كان واتصلت بالفنان القدير، ووجدته مُرحباً وودوداً لدرجة كبيرة جداً، وعندما أبلغته رغبتي في إجراء حوار صحفي معه، بادرني بالسؤال قائلاً: حنتكلم في إيه يا محمد؟، فأجبته على الفور، وعرضت عليه المحاور الرئيسية للحوار، والتي أعددتها مسبقاً قبل الاتصال به، فأبلغني أنه لديه عروض مسرحية خارج مصر، ووعدني بأنه سوف يتصل بي في الوقت المناسب، شعرت أنه يحاول بلباقة الاعتذار عن عدم إجراء الحوار، واحترمت رغبته، وانتهت المكالمة.
وبعد مرور أكثر من شهرين قرأت أنه سيبدأ عروضاً جديدة في مسرح الهرم أو مسرح الزعيم، فقلت لنفسي لماذا لا اتصل به مره أخرى لأنني دائماً كنت لا أفضل فكرة المطاردة في العمل الصحفي احتراماً للمهنة نفسها واحتراماً أيضاً لخصوصية الشخصية التي أرغب في محاورتها، وبالفعل قد كان واتصلت به، وكانت المفاجأة أن رقمي كان مُسجلاً لأنه أجابني مباشرة: أهلاً يا محمد كويس إنك اتصلت تعالى لي المسرح بعد بكره حنتظرك، واتفقنا على تفاصيل اللقاء، وبدأت رحلة القراءة في أرشيف الفنان القدير بجريدة الأهرم، والذي يضم أكثر من 50 ملفاً، كل ملف يضم عشرات الحوارات والأخبار، ووقتها لم يكن لدينا جوجل للبحث، فقط الأرشيف المطبوع، وفي تلك اللحظة أدركت لماذا كان عادل إمام مقلاً في إجراء الحوارات الصحفية في تلك الفترة، وعلى مدار يومين سهرة في أرشيف الأهرام مع أستاذ إبراهيم مسؤول الأرشيف وقتها أنهيت تصفح جميع الملفات وقمت بتدوين ملاحظاتي وأعددت الأسئلة، وكانت مهمة البحث عن سؤال لم يُسأل للفنان عادل إمام شاقة للغاية، لكنني استطعت العثور على أسئلة من بين السطور، وفي صباح اليوم نفسه بادرني الزعيم بالاتصال لتأخير الموعد ساعة والذي كان على ما أذكر الساعة الخامسة مساءً، ومع كل مكالمة مع الزعيم كان حبي واحترامي وتقديري لهذا الفنان يزداد.
واصطحبت معي صديقي المصور الصحفي محمد حجازي في طريقنا للقاء الفنان القدير عادل إمام، وعادت بي الذاكرة أكثر من خمسة عشر عاماً أخرى وتذكرت وعمري ١٤ سنة، عندما كنت أذهب مع أصدقائي إلى السينما الصيفية في مدينة بلبيس التي عشت فيها طفولتي، وكان مصروفنا وقتها لا يكفي لشراء تذكرة، فكنا نشتري لب وسوداني ونستأجر سلماً خشبياً طويلاً من عم سيد النجار ونضعه على سور السينما ونجلس لنشاهد الفيلم. إلى أن اكتشف عم كامل مدير السينما وقتها الحكاية وأراد أن يعاقبنا، فانتظر إلى أن جلسنا على السور وأخذ السلم دون أن نشعر، لأننا كنا مندمجين تماماً مع فيلم ”رجب فوق صفيح ساخن“ ولم ينقذنا من هذا المأزق سوى أحد الأصدقاء الذي جاء لتوّه لمشاهدة الفيلم بالطريقة نفسها، فاستخدمنا السلم الذي إستأجره ونزلنا، ولازلت أذكر مشهد قاعة السينما من فوق السور وهي مكتملة العدد، ولا يوجد كرسي واحد فارغاً حتى الكراسي المكسورة، وأذكر أيضاً أن ظاهرة السلم الخشبي لم تنتشر إلا مع أفلام عادل إمام.
ومنذ أن أصبحت صحفياً لم أكن أفكر في إجراء حواراً صحفياً مع الزعيم، وكنت اكتفي فقط بمشاهدة أفلامه، بعد أن أصبحت قادراً على قطع تذكرة في السينما المكيفة، وعندما أجريت هذا الحوار الصحفي مع الزعيم لم يكن من أجل لقاء الفنان الذي كان ولا يزال يتربع على عرش النجومية وحب واحترام جمهوره على مدار أكثر من خمسين عاماً، وليس لأنه سفير النوايا الحسنة التابعة للمفوضية العليا للأمم المتحدة مع أسماء عالمية مثل أنجلينا جولى وباربارا هاندريكس، وغيرهما، وليس لأنه صاحب الأرقام القياسية لفترات عروض طويلة وغير مسبوقة في تاريخ المسرح المصري والعربي وربما العالمي، بداية من مسرحية مدرسة المشاغبين التي استمرت 4 سنوات، ثم تبعتها مسرحية "شاهد ما شفش حاجة" 1976، واستمرت سبع سنوات، ثم "الواد سيد الشغال" 1985، واستمرت ثماني سنوات، ثم "الزعيم" 1993 حتى 1999، وليس لأنه الفنان الأكثر شعبية في تاريخ السينما المصرية والعربية، ونجم الإيرادات الأول في شباك التذاكر.
ولكن فقط من أجل أن اتذكر معه عم سيد النجار والسلم الخشبي والسينما الصيفي في بلدنا ورجب فوق صفيح ساخن، وشعبان تحت الصفر، المشبوه، على باب الوزير، المتسول، الحريف، عنتر شايل سيفه، خمسة باب، الأفوكاتو، وأتنين على الطريق، وغيرها العشرات من الأفلام التي أذكرها عن ظهر قلب، ولا تزال تُشكل الذاكرة الحقيقية للبسمة والضحكة الصافية، لفنان كنت ولا أزال أراه دائماً الرمز والقيمة لأنه لم يكن يوماً مع أحد غير جمهوره ولم ينحاز لأحد غير جمهوره، قد نختلف معه أحياناً، لكن تقبله دائماً لهذه المساحة من الاختلاف تُزيد دائماً قدر محبتنا وتقديرنا واحترامنا له.
لذلك أقول لكل من يدعو لتكريم عادل إمام، ويحاول أن يُذكرنا بتاريخ الزعيم الذي نحفظه عن ظهر قلب، إن عادل إمام في حد ذاته تكريمُ لمن يُكرمه.
ذات مرة سأل مذيع العندليب عبدالحليم حافظ عن أم كلثوم وعادل إمام، فأجابه قائلاً "الست لن يأتى مثلها ولو بعد مليون سنة، وعادل أجمل اختراع للقضاء على الحزن والزمن الجاى بتاعه"
وإليكم بعض مقتطفات من حوار عمره أكثر من خمسة عشر عاماً مع الفنان القدير عادل إمام.
مسيرتك الفنية شهدت تلاحماً مع قضايا المجتمع بواقعه وآلامه.. فهل كان هذا مصادفة أم نابعاً من تأثرك على المستوى الحياتي بهذا الواقع؟
دائماً ظروف المجتمع على المستوى الاقتصادي والسياسي تنعكس على الفن، لأنه مرآة المجتمع، والفنان لابد أن يشعر بهموم المواطن العادي حتى يصل إليه. وأنا تأثرت بواقع هذا المجتمع لأنني نشأت وسط أسرة بسيطة، من جذورٍ ريفية، ولأبٍ كان موظفاً بسيطاً مثل ملايين المصريين، وأمٌ تمثّل نموذجاً للمرأة المصرية التي لم تأخذ حظها من التعليم، وكان حلمها الأساسي أن يحصل إبنها الأكبر على الشهادة الجامعية، لذلك عندما التحقت بكلية الزراعة اجتهدت حتى أحقق هذا الحلم، واجتهدت لأنني كنت أشعر بمدى معاناتهما من أجلى أنا وشقيقي الأوسط ”عصام“ وشقيقتي الصغرى ”إيمان“. ورغم البساطة التي كنّا نعيش فيها فإن الحب كان يملأ هذه الأسرة وكان أساس حياتنا، وفي ريف المنصورة كنتَ تجد العائلة الواحدة، الفلاح والدكتور والمهندس وأستاذ الجامعة.. عشت في قلب المجتمع المصري، واقتربت من واقعه وآلامه، وأحسست بالمهمشين في هذا المجتمع، لذلك فإن ”التلاحم“، على حد تعبيرك، مع قضايا المجتمع لم يكن مصادفة. ففي بداية حياتي عندما تزوجت واشتريت شقة كنت أفرش ”جرنال“ لأنام عليه أنا وزوجتي، ومع الوقت بدأنا نؤسس الشقة، وأذكر أيضاً أنني كنت أفكر في العمل على ”تاكسي“ لتوفير متطلبات الحياة، لكني تراجعت بعد أن وجدت باباً آخر من خلال عملي بالفن… فأنا تربية الحارة المصرية والشارع المصري والشعب المصري الذي أعتبره فيلسوف السخرية والضحك، فالمصريون، إذا لم يجدوا ما يسخرون منه، يسخرون من أنفسهم، وهذا دليل على عظمة هذا الشعب وقوته أيضاً وثقته بنفسه.
مشواري الفني الذي ارتبط إلى حدٍ كبير بكل الأزمات التي واجهت المجتمع المصري، بداية من حرب ١٩٥٦ ومروراً بنكسة ١٩٦٧ ثم انتصار أكتوبر ١٩٧٣ وكل الأحداث التي انعكست على المجتمع من انفتاحات وانغلاقات وعولمة وإرهابٍ أيضاً، فعندما إنتشرت ظاهرة الإرهاب كان لابد أن أشارك المجتمع بفني، فقدمت ”الإرهابي“ و ”الإرهاب والكباب“ و ”طيور الظلام“ كل هذا كان في الوقت الذي يرددون فيه أن الفن حرام، رغم أنني رجل مسلم، ومن المستحيل أن أعمل في مهنة حرام أو مهنة تتعارض مع تعاليم ديني.
وفي الوقت نفسه سافرت أسيوط عندما فوجئت بأن بعض الزملاء الفنانين من الهواة منعهم بعض المتطرفين في قرية تدعى ”كودية الإسلام“ من ممارسة فنهم، واعتدوا عليهم، فقررت أن أذهب إلى هؤلاء المتطرفين ومعي فرقتي المسرحية وعرضت المسرحية، وأكدت لهؤلاء أن الفن باقٍ مهما يحدث، وأن ممارسة الفن ليس لها مكان محدد ولكن في أي مكان من أرض الله الواسعة، لأنه في الأساس موهبة من عند الله وليس للعبد أي دخل فيها. وعندما انتشرت ظاهرة المخدرات قدمت ”النمر والأنثى“ وغيره من الأفلام التي تهاجم تلك الظاهرة، وفي أزمة الإسكان قدمت ”كراكون في الشارع“ الذي عرضت من خلاله حلم تلك الأسرة الصغيرة في أن تعيش في مكان آمن، حتى لو في كراكون في الشارع، أو غرفة في المقابر. فهذا هو دور الفنان الحقيقي، فأنا من المجتمع وللمجتمع، واقترابي من المهمشين في هذا المجتمع نابع من إحساسي بهم وشعوري بما يعانونه.
وأذكر أنني في إحدى المرات كنت أجلس مع رجل أعمال وقال لي: ”إنت ليه دايماً بتهاجم رجال الأعمال الأغنياء؟“ فقلت له: ”إنت عايزني أهاجم الفقراء! .. يعني يبقوا فقراء وكمان نهاجمهم؟… يعني الناس حتلاقيها منين ولا منين“.. وقلت له: ”أننا نهاجم نوعية محددة من رجال الأعمال الذين ينهبون أموال الناس الغلابة ويهربون“… وفي مسرحية ”بودي جارد“ اتعرض لهذه المشكلة وأتحدث عن ”نواب القروض“ لأنني أعتبر أن هذه الفلوس فلوسي ومن حقي أن أدافع عنها… فكل هذا مستحيل أن يأتي مصادفة لكنه تعايش وانغماس وشعور وإحساس واختلاط. وتستطيع أن تعتبرني معجوناً مع المجتمع المصري بواقعه وآلامه التي هي واقعي وآلامي، فأنا آذكر أيام كنت أتعامل مع مسرح التلفزيون بالقطعة مقابل ٥٠ قرش في الليلة، وكنت أمشي على رجليّ من مسرح الأوبرا بالعتبة حتى العمرانية في آخر الهرم لأنني لم أكن أملك ثمن تذكرة الأوتوبيس.
لم أشعر يوماً بالفقر
لكن هذا الواقع وتلك الآلام التي كنت معجوناً فيها مع ملايين المصريين لم تجعل الشعور بالحقد الإجتماعي يتسرب داخلك تجاه فئة معينة من المجتمع وتحديداً الأثرياء؟
هذا الشعور الذي تتحدث عنه لم يتسرب لحظة داخلي لأنني في أصعب لحظات حياتي لم أكن أشـعر بالفقر، حتى وأنا أسير وليس في جيبي مليم واحد، وهذه القناعة نشأتُ عليها، فلم أكن أحصل على مصروف يومي، وكنت أعتمد على أربع جنيهات أحصل عليها من معرض الجامعة، ووقتها أكون قد اشتريت قميص بجنيه وربع الجنيه وأكلت كباباً، فهذه كانت حياتي، فلم أكن أفكر يوماً في أن أصبح ثرياً، وكان يكفيني أنّ هدومي مغسولة ومكوية وأكلي كويس في البيت.
ولم يكن لدي أي حسابات مادية، وأذكر أنني في يوم من الأيام كنت أسير أنا وأحد أصدقائي في شارع قصر النيل، وكان جيبي فاضي ومفيهوش مليم واحد، ومرت بجانبنا سيارة فخمة جداً، يقودها شاب في منتهى الأناقة وتجلس بجواره فتاة جميلة جداً وترتدي فستاناً ”موف“ وتعلق على رقبتها عقداً من الفل.
أخذنا ننظر إليهما حتى اختفت السيارة تماماً، ووقتها قلت: الله… أما صديقي فقال: يا ولاد الكلب!. فأنا طول عمري، حتى وأنا في أشد أيام الفقر، لم أكن ضد أصحاب المال، ولم أفكر إطلاقاً في أن أصبح حتى مثلهم، لأنني كما قلت لك لم أشعر يوماً بأنني فقير لأنني كنت ”شبعان“ و“عيني مليانة“.
هل تشعر بأن منصبك كسفير للنوايا الحسنة يُعد امتداداً لاهتمامك بالبسطاء الذين تُسلط الضوء عليهم دائماً وعلى مشاكلهم وقضاياهم في أعمالك الفنية؟
طول عمري مغرم بالعمل السياسي دون أن أشترك فيه، منذ أن كنت طفلاً صغيراً وأنا أهتم بقراءة الصحف، ورغم صغر سني إلا أنني كنت أشعر بأنني مواطن ومن حقي أن أعرف كل شيء عن بلدي، وأيضاً عن البلاد الأخرى التي قد يكون لها تأثير من قريب أو بعيد على بلدي وسياساتها ووضعها على الخريطة وسط دول العالم، لدرجة أنني اشتركت في حزب شيوعي وأنا في الصف الثاني الثانوي، وكان ذلك من خلال صديق لي ما زلت أذكره، اسمه عادل بسيوني، وكان يجلس بجانبي في الفصل، وكان له اهتمامات سياسية، فلاحظ اهتمامي بأخبار البلد، فدعاني لأذهب معه لحضور اجتماع أحد الأحزاب، فذهبت لأجد نفسي عضواً في ”حزب العمال والفلاحين الشيوعيين“.
ورغم وقتها لم أكن أفهم يعني إيه شيوعية؟ فإنني كنت أشعر بأهمية العمل لصالح الأغلبية، وهذا ما كان ينادي به الفكر اليساري، ولم أواصل في هذا الحزب لأنني فوجئت بأن إسمي الحركي هو اسمي الحقيقي ”عادل“ فاعترضت وتركت الحزب، لأني بصراحة كان نفسي في اسم حركي غير اسمي.
بعد الخبرة التي اكتسبتها بعد مشوارك الفني على مدار أكثر من 35 سنة.. هل ما زلت تعيش حالة القلق والخوف مع كل عمل جديد؟
طبعاً، فالقلق لا ينتهي والخوف لا يتوقف مع كل عمل فني جديد، لأن تلك الحالة ليست مرتبطة بأي خبرة، بل على العكس، كلما ازدادت خبرتك ونجاحك كلما ازداد قلقك وخوفك.
ثقتك بحب الناس لك.. ألا تشعرك ببعض الأمان؟
هذا ما يزيد قلقي وخوفي، لأن الناس بيدفعوا فلوس عشان يشوفوك لأنهم واثقين فيك، وبالتالي إنت بتفكّر دايماً في الشئ إللي يعجبهم ويسعدهم، حتى تحافظ على ثقتهم فيك.
لكن مع الخبرة أصبحت قادراً على توقع النجاح؟
طبعاً أقدر أحكم على الفيلم قبل عرضه، لأنك مع الوقت بتفهم الناس عايزه إيه؟ وإيه إللي بيحبوه، ومادمت قريب منهم أكيد هتشعر بمشاكلهم ومتطلباتهم، وبالتالي حتقدم شيء يعجبهم.
النجومية يصنعها الممثل أم يصنعها الجمهور؟
النجومية حالة جماهيرية، والجمهور وحده هو الذي يمنحها، ولو كان لها معادلة ثابتة يضعها الممثل لأصبحت شيئاً سهلاً، لكن الموضوع يحتاج إلى الإخلاص مع الناس، وأن تكون - بجد- بتحب فنك.
اليوم مات أبي
عندما توفيّ والدك، كنت تعرض مسرحية في الخارج، وكان الجمهور يبكي من فرط الضحك، مثلما بكيت أنت من فرط الحزن.. فهل قمة المأساة تساعد على الوصول إلى قمة الكوميديا؟
كلما زادت المأساة زاد رد الفعل الكوميدي، تماماً مثلما حدث في فيلم ”كراكون في الشارع“ عندما عاش هو وأسرته في المقابر، فهذه كانت مأساة، لكنها صنعت كوميديا عظيمة.
وعندما مات أبي كنت في لبنان وعندي عرض مسرحي، وفي هذه الليلة الجمهور كان يبكي من الضحك، رغم الحزن الذي بداخلي شعرت بأنني أعزي نفسي بإسعاد الناس، ويومها قررت أن أرثي أبي من المكان الذي أحبه وأقدمه، وهو خشبة المسرح. وبعد انتهاء العرض قلت لهم: اليوم مات أبي.
ظللت أحكي لهم عن أبي وماذا كان يفعل معي، وكيف كنا نعيش؟ وأشياء كثيرة، وكانوا يستمعون لي بكل إنصات واهتمام، وبكوا مثلما بكيت على خشبة المسرح، وأعتقد أن أبي مات وهو راضٍ عني، لأنني لا أذكر أنني فعلت أي شيء يغضبه.
الأرض الصلبة والجذور الراسخة والحب الكبير والحضن الرحب.. كيف استعضت عن كل هذا بعد وفاة والدك ووالدتك؟
لا يوجد أكبر من حنان الأب والأم، فبعدهما لا يعوضهما أيُّ حنان، وبعد وفاة والدي فقدت تلك الأرض الصلبة التي كنت أشعر بأنني أقف عليها، عندما كان يحملني على كتفيه. وبعد وفاة أمي لم أبكها كثيراً، لأنها كانت مريضة مرضاً طويلاً، لكن بعد مرور شهر تقريباً على وفاتها، كنت أركب سيارتي وأسير في أحد الشوارع، وفجأة توقفت ووجدت نفسي أبكي بشدة، وفي تلك اللحظة شعرت بأنني فقدت هذا الحضن الرحب والحب الكبير والحنان الذي لا يعوضه أي إنسان، وإلى الآن يأخذني الحنين إلى أبي وأمي، وأحياناً أبكي.
البعض يُفسِّر سر صداقتك بعبدالحليم حافظ بالحزن الذي يغلف ضحكاتك مثلما يستوطن حنجرته.. ما رأيك؟
الكاتب مفيد فوزي كتب مرة وقال: ”إن عبدالحليم حافظ يغني من منطلق شجن، وعادل إمام يضحك من منطلق شجن“ وهذا كان تحليلاً موفقاً، وأعتقد بأنه حقيقي وصادق، لأنني مليء بالشجن.
الكرة الشراب
فنان الأقنعة السحرية.. الذي يأخذه الحنين دائماً إلى جذوره في حي الحِلمية، والكرة الشراب وصاحبها "التخين" دائماً... ما الذي يحضرك من هذه الذكريات الآن؟
كل هذه الذكريات موجودة بداخلي طول الوقت، لأن حي الحلمية من الأحياء البديعة جداً، وتجد فيه السياسين والرياضيين والفنانين وكل فئات المجتمع. وأنا من حسن حظي أنني ولدت في هذا الحي الجميل، الذي كوّنت فيه صداقاتي الحقيقة من خلال زملائي في المدرسة، أمثال الدكتور ماهر والدكتور سعد جبر والدكتور ضياء وغيرهم، وكنت أعشق كرة القدم وأمارسها مع أصدقائي في شوارع الحلمية والخليفة بشكل دائم، وبصفة خاصة خلال شهر رمضان، وكانت كرة الشراب وصاحبها دائماً يكون واحد ”تخين“ وما بيعرفش يلعب، وكنا حريصين على إننا ”منزعلوش“ علشان ما يخدش الكرة ويمشي. وحبي لهذه اللعبة هو الذي جعلني أقدم خلال مشواري الفني ثلاثة أفلام عنها، هي: ”الشياطين والكرة“ عام ١٩٧٣ مع حسن يوسف وشمس البارودي، و”رجل فقد عقله“ عام ١٩٨٠ مع سهير رمزي وفريد شوقي و”الحريف“ عام ١٩٨٤ مع فردوس عبد الحميد وإخراج محمد خان.
وهل تجد الوقت الآن لممارسة كرة القدم؟
الآن أكتفي فقط بمشاهدة المباريات التي لها أهميتها، وتحديداً التي يكون فريقنا القومي طرفاً فيها مثل البطولات الأفريقية وكأس العالم، بالإضافة إلى مباريات الأندية المصرية.
الأميبا وحبوب اللقاح
وهل تحب أن نتحدث عن ذكريات الجامعة مثلما نتحدث عن الحلمية؟
أنا قضيت أمتع أيام حياتي في الجامعة، وتحديداً في كلية الزراعة، وأصحابي صلاح السعدني وفيصل عزب والكاتب الصحفي مرسي عطا الله، وفريق التمثيل والمحاضرات والأميبا وحبوب اللقاح والميكروسكوب والكائنات الدقيقة، ويعني إيه ولد ويعني إيه بنت، ففي كلية الزراعة اكتشفت عظمة الله من تحت الميكروسكوب، ورغم أنني لم أكن ”طالباً شاطراً“ فإن أساتذتي كانوا يحبونني لأنني كنت حريصاً على المذاكرة، حصلت على امتياز وجيد جداً في أربع مواد، وفي حفلات آخر السنة كنت دائماً أفوز بالكأس، لذلك أصبحت رئيس فريق التمثيل بعد زكي جمعة الرئيس السابق، وتسلم الرئاسة بعدي صلاح السعدني، رغم أنه لم يكن يفكر في التمثيل، وكان حلمه الأساسي أن يكون صحفياً، لكنني أقنعته في الإستمرار في التمثيل، وظلت صداقتنا قوية إلى الآن، وأيضاً سعيد صالح.
بمن تأثر عادل إمام؟ على المستويين الفني والحياتي؟
أول من تأثرت به كان أبي، الذي لم يكن يحلم إلا بحصول إبنه الأكبر على الشهادة الجامعية، وكان موظفاً بسيطاً، لذلك عندما تخرّجت واتجهت إلى التمثيل، ولم أعمل بالشهادة الجامعية التي حصلت عليها، لم يعترف بعملي في التمثيل، لكنه لم يعترض، وبعد عدة سنوات في لقاء له مع أحد وكلاء الوزارة سأله الوكيل: إنت صحيح أبو عادل إمام؟ فأجابه: نعم. ووقتها شعر بأنني أقدم شيئاً له قيمة وكان سعيداً جداً. وعلى فكرة، كان دمه خفيفاً جداً مثل جدي الذي كان عنده دكان بقاله في قرية ”شها“ بالمنصورة، وكان يجتمع الناس حوله من وجهاء وفلاحين ليتسامروا معه ويضحكوا من قلوبهم، وبعد ما يضحكوا كان يطردهم كلهم، يعني تقدر تعتبر إن الموضوع وراثة. وتأثرت أيضاً بالفنان القدير فؤاد المهندس، هذا الرجل الذي كان يحترم المسرح، وأذكر أنني اشتركت معه في ”أنا وهو وهي“ استقبلني بحبٍ شديد وأصبحنا أصدقاء، وكذلك محمود مرسي، الذي تعلّمت منه كيف يكون الإنسان محترماً، بالصدق والثقافة. وكنا نجلس معه على مائدة في الشيراتون ونتحدث في موضوعات في غاية الأهمية، ولا أنسى أيضاً الدكتور محمود ”أستاذ الكيمياء بكلية الزراعة“.
ألا يحزنك أنك على مدار حياتك الفنية لم تقدم إلا عدداً محدوداً من المسرحيات رغم حبك للمسرح؟
بل على العكس، فأنا أحمد الله على نجاح كل عمل مسرحي أقدمه. فعلى سبيل المثال ”بودي جارد“ أعرضها للسنة السادسة ورغم ذلك أشعر بأنني أقدمها للسنة الأولى، لأنك عندما تسمع رنة الضحك في المسرح، وتشاهد البسمة على وجه الناس، والتصفيق الحار في آخر العرض، ومشاركة الناس وتجاوبهم معنا أثناء الرواية، كل هذا يجعلك تتراجع عن تغيير الرواية. بالإضافة إلى أنني كل يوم أضيفُ جديداً، وكل يوم ستجد له روحاً مختلفة وحساً مختلفاً، ولا تتصور مدى القلق الذي أعيش فيه عندما أفكّر في تغيير الرواية، فهذا قرار صعب جداً، لأنني والحمد لله أغيّر الرواية من أجل التغيير فقط، وليس لضعف الإقبال عليها.
رغم أن السينما القديمة لا تخلو من بعض الأفلام السطحية فإن عقدة تقديس الماضي تجعلنا دائماً نردد أين أيام ”سينما الزمن الجميل“ ما رأيك في ذلك؟
أنا عاصرت هذا الزمن في بداياتي، ورأيت كيف يحترم الفنان عمله ويقدره، وأحسست بمدى إخلاصهم في العمل، لذلك تجد الجمهور دائماً يأخذه الحنين لهذا الزمن، لأنه يشعُر بإخلاص الفنان لفنّه واحترامه لجمهوره، وأنا شخصياً في أعمالي أسير على النهج نفسه، ولا أتعامل مع فنان لا يحترم عمله، لأنني لا أقدم أفلام مقاولات.
الموسيقار محمد عبدالوهاب كان يقول إن أحب أعمالي إلى قلبي آخرها.. وأنت؟
أنا بالضبط زي محمد عبدالوهاب، أحَبُ أعمالي إليّ آخرها، لأنني لا أفكر إلا في آخر عمل حتى ينتهي وأطمئن على نجاحه.
هل تذكر أول مرة صفق لك الجمهور؟
طبعاً.. كان في مسرحية ”أنا وهو وهي“ وفي المرة الأولى دخلت ولم يصفق لي الجمهور، وفي الفصل الثاني كانت شويكار وفؤاد المهندس عاملين فصل محصلش، فتخيل شويكار زي القمر، وفؤاد المهندس كوميديان رائع، والناس كانت مبسوطة جداً، ومع فتح الستار دخلت والناس مش عارفين مين ده؟ لم يصفقوا لي وكنت أقول ”ألو ألو“ ثم أرد على التيلفون، وفي نهاية المشهد وأنا خارج الناس صفقوا، وهذه كانت أول مرة، وكان لها طعم جميل جداً.
سارتر وتشيسكوف
في ”المشبوه“ و”حب في الزنزانة“ ”طيور الظلام“ قدمت أدواراً خلت من أي كوميديا، ويغلب عليها الطابع التراجيدي.. ألم تخف من رد فعل جمهورك لتلك الأفلام؟
أنا أساساً أحب التمثيل، وفي بدايتي في الجامعة كنت أقدم مسرحيات لـ ”سارتر“ و”تشيسكوف“ وأول ما تقدمت للمسرح تقدمت بأدوار تراجيدية وليست كوميدية، فالفنان الذي يحب فنه قادر على أن يقدم كل أنواع الفنون، وأنا لم أخَفَ من رد فعل جمهوري، لأنني كنت أعلم أنه يشعر بمدى إخلاصي في العمل من أجله، وأثق تماماً بأن الناس يريدون فقط عملاً جيداً، سواء كان كوميدياً أم تراجيدياً.
لو قلت لك: ماذا بعد كل هذا النجاح؟
إنت ذكرتني بواحد جاءني وأنا أصور فيلم ”بخيت وعديلة“ وكان شاباً اسكندرانياً، وقال لي : أنا عايز أعرف في إيه بعد كده، هتعمل إيه بعد كده؟ قلت له ربنا يسهل، وأقول لك ربنا يسهل.
لكن هل تسأل نفسك هذا السؤال؟
طبعاً، بعد كل عمل أفكر في ماذا بعد؟ إلى أن أصل إلى العمل الذي أشعر بأنه فعلاً سيرضي الناس وسيسعدهم، لأننا نٌبدع كل يوم.
التعليقات