ما أغرب هذا الكائن المسمّى إنساناً... كأن الله أودع في صدره كوناً صغيراً تتناوب عليه الفصول بلا ترتيب، وتتنازع فيه المتضادات بلا هوادة. قلبٌ واحد، لكنه يضجّ بألف شعور، وألف حياة، وألف موت في اليوم الواحد.
ترى الإنسان يضحك اليوم من مشهد عابر، وكأن ضوء السماء انسكب على وجهه فجأة، وكأن جراحه التي أنهكته بالأمس قد غُفرت جميعها بلحظة. ثم، وبعد يومٍ أو ربما ساعة، يعود للمشهد ذاته، فتخونه الدموع من أول نظرة، وتنكسر روحه تحت وطأة شيء لا يُرى ولا يُقال.
هل تغيّر شيء؟ لا. لا المشهد تبدّل، ولا الكلمات تغيّرت. وحده "المُتلقي" تبدّل. ذلك القلب الموجوع الذي لا يحمل توقيتاً، ولا منطقاً، ولا مسطرة تُقاس بها الاستجابات. إنه عالم داخلي يعيد تشكيل ذاته كل لحظة، ويمنح لكل موقف تفسيراً جديداً نابعاً من سياقه العاطفي لا من منطقه.
وهكذا، يغدو الإنسان غريباً حتى عن نفسه. بالأمس كان يطير فرحاً كعصفور طليق، واليوم ينكمش كزهرة تخلّت عنها شمسها. ومن عجيب المفارقات أن ما أسعدنا بالأمس قد يبكينا اليوم، وأن ما أبكانا يوماً قد يصبح، بمرور الزمن، مصدراً غامضاً للسكينة.
كأنّ المشاعر ليست سُكّاناً دائمين في القلب، بل عابري سبيل في محطة لا يثبت فيها أحد. يأتون ويغادرون دون موعد، يلقون بأثقالهم ثم يختفون، ويتركون خلفهم أطيافهم تتجوّل في الذاكرة.
في هذا المسير المتقلّب، لم يعد العقل سيّد القرار. غدت العاطفة هي البوصلة، والمزاج اللحظي هو الحَكم. نحبّ ونكره ونضحك ونبكي بلا أسباب موضوعية، بل بأمزجة لحظية تنقلب كما تنقلب السماء من صحو إلى عاصفة.
كم من لحظة فرح مرت بنا ولم ننتبه لها إلا بعد أن رحلت، وكم من وجع ظننا أنه سينهينا فإذا به اليوم لا يحرّك فينا ساكناً. أهذا نضج؟ أم موات وجداني؟ أم أنّ القلب قد بدّل جلده، فلم يعد يعترف بما كان يُحركه قديماً؟
النفس البشرية كائن حرّ، لا يستقر على حال. لا يعترف بمنطق، ولا يخضع لتصنيف. يبكي دون حدث، ويضحك وسط الركام، ويعشق ما آذاه، ويشتاق لما هرب منه. كل لحظة فيه ولادة جديدة، وكل نبضة تجربة كاملة.
يا لها من نفس... كأنها متحف حيّ، لا تُعرض فيه القطع الثابتة، بل تُعاد صياغتها في كل زيارة. تتقن البكاء وتضحك ببراعة، تُعانق الحياة وتخاصمها في الوقت ذاته، وتسكنها المتناقضات بلا صراع ظاهر، وكأنها خُلقت لتجسّد التعقيد النقيّ للحياة ذاتها.
التعليقات