لا شك أن الرقابة والمنع يسهمان في انتشار الأعمال التي تحاول بعض الأجهزة الحكومية الحيلولة دون وصولها للقارئ بحجة حماية المجتمع من الفساد والإفساد في الأرض، وأوافق تماما على الرأي القائل "الممنوع مرغوب" فهي صفة إنسانية أصيلة. فالإنسان بطبعه فضولي يحب فض المغاليق والإبحار وراء الأسرار. وعندما يُمنع عمل ما سواء كان كتابًا أو فيلمًا أو لوحة أو قصيدة، فحب الفضول لدى الإنسان يدفعه إلى السعي الدائب للوصول إلى ذلك العمل الذي منعته رقابة ما أو جهاز ما، فيتحقق له بذلك الذيوع والانتشار.
ولنأخذ مثالا على ذلك رواية "وليمة لأعشاب البحر" للكاتب السوري حيدر حيدر التي مُنعت من التوزيع في مصر منذ سنوات، وأثارت ضجة كبيرة وقتها، بل خرجت مظاهرات تطالب بمحاكمة المسئولين عن نشرها في مصر، فما كان مني إلا أن حصلت عليها بطريقة ما، وقرأتُها وكتبتُ عنها مقالا في ذلك الوقت. وربما لو لم يصدر قرارٌ بمنعها من التداول والتوزيع ما كان التفت إليها الكثيرون، والسؤال بعد كل هذه السنوات، أين مكان هذه الرواية الآن من خارطة الرواية العربية، وما موقع مؤلفها وسط كتّاب الرواية العربية؟
الرواية لم يتحدث عنها إلا عدد قليل من الأدباء والنقاد قبل صدورها في سلسلة "آفاق الكتابة" ـ التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر ـ وقبل خروج جريدة الشعب المصرية الناطقة بلسان حزب العمل ـ في مايو/آيار 2000 ـ بمنشيتاتها العريضة التي أثارت الجماهير في الشارع المصري، تظاهر بعدها الآلاف من طلاب جامعة الأزهر. وانقسم الأدباء والكتاب والنقاد والناس إلى فريقين، فريق يدافع عن حرية الرأي والتعبير، وفريق آخر يرى أنه لا حرية رأي أو تعبير فيما يتعلق بالمقدسات الدينية والتابوهات الجنسية.
إذن ساعدت الرقابة والمنع بل والمظاهرات الشعبية في انتشار مثل هكذا عمل لا يلتفت إليه لو لم تثر حوله تلك الضجة.
أيضا رواية مثل "شيفرة دافنشي" للكاتب الأمريكي دان براون التي منعت في وقت ما، فتحدث عنها الجميع وارتفع سعرها عشرة أضعاف، وبيعت في السوق السوداء، الآن هي موجودة على الأرصفة لا يُلتفت إليها كثيرا.
وأتذكر أنني اشتريت هذه الرواية من بيروت عام 2006 حيث كنت في ضيافة إحدى المحطات التلفزيونية لمدة ثلاثة أيام، ومررتُ على بعض المكتبات البيروتية، فلم أجدها معروضة لديهم، فقلت: حتى أنتِ يا بيروت! ولجأتُ إلى بائعة الكتب بإحدى المكتبات فسألتها عن الرواية، فقالت إنها موجودة بالمخازن، وغير مسموح بعرضها على منصات العرض، وعندما أبديتُ رغبتي في الحصول على نسخة منها، وعندما ذكرتُ للبائعة إنني كاتب مصري في زيارة إلى بيروت، وأخرجتُ لها بطاقة اتحاد الكتاب، اطمأنتْ وذهبتْ الى المخزن وأتت بنسخة أتذكر أن ثمنها كان 15 ألف ليرة، (ما يعادل عشرة دولارات وقتها).
كما أتذكر أثناء المغادرة وفي مكتبة مطار بيروت الدولي، اختبرتُ وجود الرواية من عدمه، فقالت لي البائعة: إنها غير موجودة، وأنها ممنوعة من التداول.
رواية "الخبز الحافي" للكاتب المغربي محمد شكري أيضا كانت ممنوعة من التداول في السبعينيات، ولكن أحد الأصدقاء الشعراء أكد لي أنه استطاع الحصول على نسخة بطريقة ما، فطلبتُ منه الاطلاع عليها، فأرسلها لي بالبريد المسجل، فقرأتُها وأعدتها له أيضا بالبريد المسجل. والآن الرواية موجودة في كل مكان، ولم تلفت إلا الدارسين والنقاد.
في عام 1959 كان عمري ست سنوات، وكنت استمع إلى تمثيلية "أولاد حارتنا" في الإذاعة المصرية، وكانت الرواية تنشر مسلسلةً في جريدة الأهرام المصرية باسم صاحبها نجيب محفوظ، لكنني بطبيعة الحال لم تكن لدي القدرة على قراءتها في ذلك الوقت.
وعندما كبرتُ قليلا واتجهتُ إلى عالم الأدب عرفتُ أزمة تلك الرواية، وأنها ممنوعة من الطباعة والتداول في مصر إرضاءً لعلماء الأزهر وشيوخه، في ذلك الوقت، ورغم عدم صدور قرار بمنع نشر "أولاد حارتنا" إلا أنه وبسبب الضجة التي أحدثتها تم الاتفاق بين محفوظ وحسن صبري الخولي (الممثل الشخصي للرئيس الراحل جمال عبد الناصر) بعدم نشر الرواية في مصر إلا بعد أخذ موافقة الأزهر، ولكنها طبعتها دار الآداب في بيروت عام 1962، فكنت أسأل أصدقائي الأدباء والكتاب والروائيين عن نسخة منها، إلى أن تمكّن أحد الأصدقاء من تصويرها عن النسخة التي كانت لديه، ويعتز بامتلاكها بعد أن أرسلها له أحد أصدقائه من بيروت.
الآن "أولاد حارتنا" موجودة في كل مكان، لدى المكتبات ولدى بائعي الجرائد والمجلات، ولا يثير وجودها أي أزمة أدبية أو فكرية. بل أنه عندما طلبتْ دار الشروق من نجيب محفوظ الموافقة على طباعة الرواية في مصر، وافق محفوظ على طباعتها شريطة أن يكتب لها أحد المفكرين المسلمين كلمة أو مقدمة لها، ففعل الدكتور أحمد كمال أبوالمجد وصدرت الرواية في مصر عام 2006.
وقد استفاد بعض الأدباء والكتاب التهويل من شأن المنع والرقابة، وأنه قد يكون سببًا كبيرًا في انتشار وذيوع الأعمال الأدبية، فكان يطبع أعماله، ويُرسل خطابات لدى بعض الجهات المسئولة عن الرقابة والمنع، يبلغها بأن العمل الفلاني به إساءات وتجاوزات دينية أو سياسية أو جنسية فجَّة، فتلجأ الجهة الرقابية إلى منع العمل ـ ربما دون قراءته ـ فيلتقط هذا الأديب الخبر وينشره بأن عمله الفلاني ممنوع من التداول، وأن الرقابة رفضت توزيعه، وأن في هذا الأمر تعديًّا على حرية الفكر والتعبير وحرية الرأي والكتابة، ويتم تداول الأمر كقضية مجتمعية وفكرية وثقافية خطيرة، وتدخل على الخط جهات أخرى، وتكبر القضية وتتسع أطرافُها، وينتشر اسم العمل واسم صاحبه، وتُعقد معه اللقاءات الصحفية والتلفزيونية، ويبحث القارئ عن "الممنوع" الذي يصبح مرغوبًا في هذا التوقيت.
غير أننا الآن ونحن نعيش عصر الإنترنت والفضاءات المفتوحة وشبكات التواصل الاجتماعي أجد أنه لا يوجد أدنى مبرر للمنع والرقابة، فماذا سنمنع وكيف؟ وأن الأمر يعود إلى أخلاقيات الكاتب نفسه ومدى تقبل المجتمع والقرَّاء لأفكاره وآرائه وتصوراته، وأن المناقشة الهادئة للأعمال التي قد يتم الاعتراض عليها هي سبيلنا الوحيد للتمتع بحرية الفكر والتعبير، فإما أن تقنعني أو أقنعك.
التعليقات