لا يوجد وجه شبه كبير بين رواية "واحة الغروب" لبهاء طاهر، و"ساحر الصحراء" أو "السيميائي" للكاتب البرازيلي باولو كويليو التي قام بترجمتها بهاء طاهر قبل كتابة رائعته "واحة الغروب".
كلتاهما تدوران في الصحراء العربية، وكلتاهما تبحثان عن كنز. تبحث كاثرين الأيرلندية زوجة مأمور الواحة عن كنز الإسكندر الأكبر في واحة سيوة بالصحراء الغربية لمصر، بينما يبحث الشاب الإسباني سانتياجو عن كنزه (غير المعروف) بجوار الهرم.
كلاهما يجري وراء كنزه المادي أو المعنوي، وكلاهما يخوض الصحراء ويتعرض لشتى مناخاتها وتغيراتها وعواصفها الرملية والنفسية إلى أن يصل إلى مكانه المُراد، وكلاهما يفشل في النهاية في الوصول إلى كنزه، ولكن يربح سانتياجو أسطورته الذاتية ويكتشف روح العالم، من خلال بعض التمرينات النفسية أو الروحية التي مر بها، ولعل هذا هو الكنز الحقيقي الذي يصل إليه. بينما ينتهي الأمر بكاثرين بأن يفجر زوجها محمود عزمي مأمور الواحة المعبد الذي اعتقدت كاثرين أن على جدرانه بعض الإشارات والعبارات التي توحي بمكان الكنز.
هذا هو الرابط، أو وجه الشبه الوحيد ـ كما أرى ـ الذي يربط الروايتين "واحة الغروب"، و"ساحر الصحراء"، وعدا ذلك تفترق الروايتان عند نقاط حاسمة. أهمها محمود عزمي المأمور المتهم من رؤسائه بالتعاطف مع الثورة العرابية، فيعاملونه على أنه خائن وينفونه إلى الصحراء ليجلب للنظارة (وزارة الداخلية) ضرائب الواحة معرضا نفسه للهلاك على أيدي البدو أو الأعراب الذين يكرهون كل من يأتي من العاصمة المصرية لشغل هذا المنصب، وتزداد كراهيتهم لمحمود بسبب زوجته الأجنبية التي جاءت تكشف أسرارهم وتحاول أن تدخل بيوتهم وتصادق نساءهم، وتعبث في معابدهم لاستجلاء مكان الكنز الذي تبحث عنه، فيقفون لها بالمرصاد.
ولم يفلح المأمور في استثمار العداوة بين الشرقيين والغربيين في الواحة، فكلا الفريقين يكرهه، ويكره شاغل المنصب وقد قتلوا المأمور الذي كان قبله، فجاء محمود إلى هذه البقعة من أرض مصر وهو يعرف أنه من الصعب أن يُسلس قيادها.
إن التيار النفسي أو تيار الشعور ربما يكون هو الأعلى صوتا في رواية "واحة الغروب" التي اعتمدت على شكل الرواية الصوتية، فكل صوت من أصواتها يتحدث عن نفسه وعن المحيطين به وعن تاريخه في الحياة، مسترجعا ومتأملا وكاشفا عن أسراره في لحظات ضيقه ونفوره من الآخر أو حتى في لحظات إقباله عليه وعلى الحياة.
وإذا كان محمود المأمور أو الضابط، وزوجته الأجنبية كاثرين من أهم الشخصيات الرئيسية في الرواية إلى جانب الشيخ صابر والشيخ يحيى، فإن هناك شخصيتين أخريين كان لهما تأثيرهما الكبير رغم قلة المساحة المكتوبة عنهما مقارنة بمساحة محمود وكاثرين، وهما: مليكة وفيونا.
مليكة الشابة الجميلة قتلها الخروج عن تقاليد الواحة، وعدم فهم كاثرين لها عندما ذهبت تختبئ عندها ظنًّا منها أن ستفهمها وتحميها من أهل زوجها وأهل الواحة، ولكنها فهمت إشاراتها بالخطأ وظنت أن الفتاة شاذة، بينما فيونا المرحة الجميلة (أخت كاثرين) قتلها المرض الصدري ولم تكن الواحة مشفى لها كما كانت تظن.
إنها بالفعل واحة الغروب، ففيها يغرب كل شيء جميل لتبقى على حالها من التخلف والكراهية والانطواء والعزلة، حتى العلاقة بين محمود وكاثرين انتهت إلى غروب في هذه الواحة الكئيبة.
يقول محمود في أحد مونولوجاته المتعددة بالرواية "انتهى هنا نهار علاقتنا إلى غروب في هذه المحطة الأخيرة إلى الأفق الغربي كما وصفت كاثرين هذا المكان. تفتت مثل الرمال ثم بددته كله عاصفة مليكة."
الرواية أيضا تحمل في طياتها تناولا للعلاقة بين الشرق والغرب، متمثلة في علاقة محمود الشرقي بزوجته كاثرين الغربية من خلال علاقة شرعية، وفي علاقة أختها فيونا بأهل مصر وخاصة أثناء رحلتها في القافلة التي نقلتها من الإسكندرية إلى واحة سيوة، بعد أن قرر الأطباء في بلادها أن تذهب إلى مكان أكثر دفئا علها تشفى.
وقد سبق لكتاب كثيرين أن تناولوا هذه العلاقة من خلال أعمالهم الروائية، نتذكر هنا يوسف إدريس وروايته "البيضاء" من خلال علاقة يحيى طبيب عمال ورش السكك الحديدية بـ "سانتي" اليونانية"، ومحمد جبريل وروايته "الشاطئ الآخر" من خلال علاقة الطالب حاتم رضوان بـ "ياسمين" اليونانية أيضا، على سبيل المثال.
وهما روايتان تدور أحداثهما داخل الوطن، وليس خارجه، كما في "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، و"الحي اللاتيني" لسهيل إدريس"، و"عودة الذئب إلى العرتوق" لإلياس الديري، و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، و"أديب" لطه حسين، وغيرها.
هنا تأخذ العلاقة منحى آخر خلافًا لما نجده في روايتي إدريس وجبريل، حيث الارتباط الشرعي من خلال الزواج الذي لم يتم في الروايتين السابقتين، ثم تلك العلاقة الخفية أو الشعور الخفي الذي يحمله محمود عزمي لأخت زوجته فيونا الإيرلندية في رحلة علاجها إلى مصر، ولكنها لم تتطور لتأخذ بُعدًا أكثر من الإعجاب بجمالها وذكائها رغم مرضها.
على أن أكثر مناطق الرواية أهمية من الناحية التاريخية هو الفصل الخاص بالإسكندر الأكبر الذي كان حضوره طاغيًا في الرواية سواء من خلال صوته هو أو صوت الآخرين عنه، وصوت الأوراق والكتب التي تبحث فيها كاثرين. وفي الفصل الذي تحدث فيه بنفسه استطاع بهاء طاهر أن يستحضر تاريخ المنطقة من خلال الإسكندر الأكبر الذي أقلقت منامه الباحثة عن كنزه كاثرين. هنا نجد أن هناك أكثر من إسكندر، أو إسكندر متعدد الوجوه، مما يعد إضافة فنية جديدة للأعمال التي تناولت الإسكندر الأكبر من قبل.
وعلى ذلك نستطيع أن نقول إن "واحة الغروب" رواية تاريخية أيضا، إلى جانب كونها رواية أصوات، ورواية نفسية، ورواية معرفية أو معلوماتية، وبهذه الخلطة الماهرة تكتسب الرواية أهميتها وشكلها الروائي الجديد.
ولعلني أتذكر في هذا المقام رواية "نوة الكرم" لنجوى شعبان التي وقع زمنها الروائي بعد دخول العثمانيين مصر عام 1517، سنجد أيضا ذكرًا لواحة سيوة في هذه الرواية من خلال سنانية وزوجها الخزَّاف الذي يصنع الأواني والخزفيات أو المزهريات للسائحين والقوافل التي تقصد بيت الله الحرام.
ولكن الأمر مختلف في "واحة الغروب" حيث الكشف عن خبيئة هذه الواحة بعد فشل الثورة العرابية ودخول الإنجليز مصر عام 1881، واتهام الوطنيين بالخيانة، وإضفاء صفة الوطنية على العملاء، وهو ما كشفته أحاديث دارت بين وصفي الضابط الجديد الذي عين بالواحة، والمأمور وكاثرين وفيونا.
ولعل شخصية مليكة في "واحة الغروب" تذكرني برواية "وردة الرمال" لغادة نبيل وبطلتها السامرة التي هربت من قريتها الصحرواية ومن أَسْرِ العادات والتقاليد التي تحكم قبيلتها، باحثة عن أرض لا يحزن فيها أحد. ولكن مليكة الجميلة لم تستطع الهروب إلى خارج الواحة مثل السامرة، وعندما لجأت إلى بيت المأمور في صورة غولة، لتحتمي به وبزوجته الأجنبية، ضربتها كاثرينا وطردها المأمور من بيته فاستلمها أهلها، وقتلتها أمها ثم أشاعت أن ابنتها قتلت نفسها بطعنة سكين.
ولعلنا من خلال السطور السابقة نكتشف أن لا علاقة بين "ساحر الصحراء"، و"وواحة الغروب" كما يعتقد البعض، فلكل رواية عالمها الخاص، وعالم "ساحر الصحراء" هو أقرب إلى العالم الصوفي والصحراء هي مجلى هذا العالم، بينما عالم "واحة الغروب" أقرب إلى العالم النفسي المعقد، والصحراء بما فيها تلك الواحة التي تشهد على غروب النفس البشرية هي أيضا مجلى هذا العالم.
التعليقات