كنت من أوائل الذين حذروا من تطبيقات الذكاء الاصطناعى وطالبت فى أكثر من مقال بضرورة وضع مواثيق شرف وأكواد للتحكم فى هذه التطبيقات، بحيث يتم تسخيرها لخدمة البشرية، والعمل مع المنظمات الدولية التى تبذل جهودا فى هذا المجال وفى مقدمتها اليونسكو، واليوم تتواصل صيحات المخاوف من تطبيقات الذكاء الاصطناعى والتى تجاوزت مجرد المقالات إلى مظاهرات تجوب الشوارع، مثل مظاهرة كتاب السيناريو فى الولايات المتحدة ضد الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعى فى كتابة الأفلام والأعمال الدرامية أو نسخ الأصوات، والتى انضم لها الممثلون. بل وصل الأمر إلى مجلس الأمن الذى عقد اجتماعا مخصصا لتهديدات الذكاء الاصطناعى، حذر فيه الأمين العام للأمم المتحدة جوتيريش من عواقب وخيمة للاستخدام الخبيث لإمكانات الذكاء الاصطناعى وأبدى قلقه من التفاعل بينه والأسلحة النووية، والتكنولوجيا الحيوية والعصبية والروبوتات، لافتا الى أن «الأدوات والمنصات التى تم تصميمها لتعزيز الاتصال البشرى تستخدم الآن لتقويض الانتخابات ونشر نظريات المؤامرة والتحريض على الكراهية والعنف».
نقرأ كل يوم عن مثل هذه التخوفات على مستويات مختلفة بدءا من فقدان الوظائف وانتهاء بسيناريو الصراع المميت للآلة الذكية مع الإنسان، ولكن هناك فرصا هائلة لاستخدامات هذه التطبيقات الذكية لخدمة البشر، ومن ثم ينبغى ان يتجاوز تفاعلنا، مجرد البكاء على لبن الذكاء الاصطناعى المسكوب او المتوقع سكبه، وعلينا إلى جانب العمل على ترشيد استخدامه بحيث يكون تحت سيطرة الإنسان، ان نسارع إلى المشاركة فى هذه الصناعة وتوطينها ونستعيد المبادرة الى الفعل الحضارى المثمر، سواء المستهلم من تراثنا الفرعونى الذى دشن حضارة لايزال العالم يحاول فك شفرتها، او من تراثنا العربى الإسلامى فى مرحلة المد الحضارى، حيث تم تحويل خرافات التنجيم إلى علم الفلك وإنجاز ابتكارات عديدة منها ما صار اليوم النواة الأولى للثورة الرقمية التى تقوم على الصفر الذى ابتكره الخوارزمى وطور استخداماته حتى أصبحت التقنيات الرقمية توصف باسمه (خوارزميات). العالم اليوم يتجه بقوة إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعى لتحقيق السيادة الرقمية والازدهار الاقتصادي. فقد توسعت هذه التطبيقات خلال أعوام قليلة لتمتد من الوظائف التقليدية له كتصنيف البيانات والمعلومات وتحليلها والتنبؤ ببعض الظواهر، والروبوتات والعربات الذاتية القيادة ورسم المخططات، إلى مجالات أخرى تشمل خدمات البيع والتصنيع والرعاية الصحية والنقل والتخزين والاتصالات والخدمات المالية والبناء، ثم دخلت مجالات كانت إلى وقت قريب حكرا على البشر مثل تأليف الموسيقى والترفيه وصناعة المحتوى وغيرها من الخدمات التعليمية والثقافية والإعلامية.
غير ان التقدم فى تطبيقات الذكاء الاصطناعى يتطلب ضوابط تنظيمية تستهدف تعزيز الثقة وتشجيع التمويل والاستثمار فى هذه المجالات. وذلك وفق معايير علمية يعتمد عليها مؤشر الذكاء الاصطناعى العالمى وتقدر بنحو 143 معيارًا موزعًا على 7 ركائز: (البنية التحتية، والمواهب، وبيئة التشغيل، والبحث، والتطوير، والاستراتيجية الحكومية والتجارية، وتحول الاستثمار فى تطبيقات الذكاء الاصطناعى إلى تجارة دولية صاعدة)، خاصة ان حجم سوق الذكاء الاصطناعى فى نمو مطرد (قدر بنحو 65 مليار دولار فى 2020، ومن المتوقع أن يصل إلى 15 تريليون دولار عام 2030) فضلا عن أن نحو 75% من الشركات سوف تستعين بالذكاء الاصطناعى، لتقرير المنتدى الاقتصادى العالمي.
كل هذه الهواجس والمخاوف والآمال كانت فى خلفية أول قمة عالمية للذكاء الاصطناعى، نظمها الاتحاد الدولى للاتصالات فى جنيف يومى 6و7 يوليو الماضي.حيث اكد الأمين العام للأمم المتحدة أن تطوير الذكاء الاصطناعى من أجل الصالح العام يتطلب ضوابط متجذرة فى حقوق الإنسان والشفافية والمحاسبة، وضرورة التوصل إلى إجماع بشأن ما يجب أن تكون عليه القواعد الإرشادية لاستخدامه. ركزت القمة على الحاجة الملحة للدفع نحو حوكمة الذكاء الاصطناعى، وضمان استخدام آمن شامل ومسئول لهذه التقنية. وتحدث خبراء كثيرون عما تحمله هذه التقنية من آمال وفرص وتحديات، غير ان الجملة الفاصلة فى هذه القمة جاءت على لسان بوغدان-مارتن الأمينة العامة للاتحاد الدولى للاتصالات حينما قالت إن مستقبل الذكاء الاصطناعى لم يكتب بعد.!.
أين نحن فى مصر من كل ذلك؟ وهل يمكن ان نسهم فى كتابة هذا المستقبل؟.. الإجابة تحتاج إلى مقال آخر!
التعليقات