بين عشية وضحاها تجد الأم نفسها متهمة بخطف أبنائها؛ ابنها الصغير ورضيعتها. تنهال عليها الاتهامات تباعا بقلة العقل والحكمة وبوادر الإصابة بالاكتئاب ونوبات غضب شديدة لا تحمد عقباها وكأن الأصل أن يؤخذ منها أطفالها عنوة بدون وجه حق وتحرم من أمومتها وتقابل القرار الملامح بمشاعر متبلدة ووجه بارد مبتسم مطموس كوجه الخاطفين. من هي السيدة تشاترجي وما قصتها؟ ومن خطف أبنائها ولماذا؟ هذا ما يحكيه لنا الفيلم الإنساني المؤثر (السيدة تشاترجي تتحدى النرويج).
ديبيكا أم شابة مهاجرة من أصول هندية قرر زوجها الاستقرار في النرويج من أجل حياة أفضل. تنجب طفلا وطفلا وتحلم بمستقبل رائع لكن الحكومة النرويجية كان لها رأي آخر. توضع الأم الهندية تحت ملاحظة سلطات حماية الأطفال وفي لمح البصر يؤخذ الأطفال منها عنوة بزعم أنها غير كفء ولا تصلح أما لهما. تنتزع الحكومة الأطفال بلا شفقة ولا رحمة حتى بالرضيعة التي لم تكمل شهرها الخامس بعد. ينكشف قناع التعددية وتقبل الآخر بثقافته وعاداته المغايرة عندما تقرر الجهات المسئولة أن الممارسات الهندية في تربية الأطفال تخل بسلامتهما وتعرضهما للخطر وكأن شعبا كاملا لم تطعمه الأمهات بيديها ولم تكحل عيونهم! الأم تطعم الأطفال بيديها. يا لها من جريمة نكراء تستدعي انتزاعهما من حضن الأسرة الدافيء دون رحمة ووضعهما في بيت غريب وسط وجوه يجهلونها ولغة لا يفهمونها دون أدنى اعتبار لنفسية الطفل وما يمكن أن يسبب له هذا الاقتلاع من الجذور من أذى نفسي.
تفقد الأم صوابها وتصرخ معترضة في ذهول: ما الذنب الذي جنيته لأفقد أطفالي؟ هذه عاداتنا وتقاليدنا. تقرر خوض معركة غير مسبوقة لاستعادة حقها في أمومة أطفالها وتربيتهما. تفعل المستحيل لتنتزع حضانتهما من بين براثن الحكومة الجائرة. الفيلم مليء بمشاعر الأم قليلة الحيلة التي تواجه بمفردها قرارات سلطات نافذة. لا تملك في معركتها سوى فطرتها وحبها الحقيقي الجارف ومنطق الأمور الذي يقول أن لا أحد سيحب أطفالها بمقدار حبها لهما. بعينين تفيضان بالدمع وقلب يفيض بالحب والتحدي نعيش معها أحداث الفيلم.
تذكرت مع الأم الهندية المعتزة بلغتها وديانتها الهندوسية أجيال المهاجرين الذين رأيتهم في إقامتي في اسكتلندا وكيف تعجبت منذ لحظة وصولي لهذا النسيج الغريب من الأوروبيين والأقليات العرقية الأخرى. كنت أرى الساري الهندى والقفطان والقميص الأفغاني جنبا إلى جنب مع الزي الإسكتلندي التقليدي يعيش الجميع في تناغم وهدوء. كثيرا ما لفت انتباهي التمازج بين الثقافات واللغات واندهش من الأجيال ذات البشرة السمراء واللهجة الاسكتلندية بامتياز من أبناء المهاجرين. يبذل المهاجرون جهدا مضنيا لحفظ التوازن بين الهوية وبين التأقلم والاندماج في المجتمع الجديد. لم يحط من قدرالاسكتلنديين أكلهم للكاري ولم يضير الجاليات الأخرى أكل البسكوت الاسكتلندي الشهير (شورتبريد) بل على العكس هذا الامتزاج أضاف للمجتمع وهذا ما أكده أحد المحامين في الفيلم بقوله( لقد أثري التنوع مجتمعنا ولم يهدمه). كيف يتشدق الغرب أنهم دعاة تقبل الآخر ويرحبون بالجميع دون انحياز لجنس أو لعرق ثم ينتزعون الوصاية من الأبوين فقط لأنهما يمارسان طقوسا مختلفة ولا تستخدم الأم الملعقة!
طوال الفيلم عصف بس سؤال ملح: ما معايير تقييم ما يصلح للطفل وما لا يصلح؟ أيهما أهم سلامته النفسية أم سلامته الاجتماعية النسبية المبنية على تصور غربي يتنافى مع أصوله التي ارتضتها الحكومة عندما أعطت للأهل تأشيرة الدخول والموافقة على الحياة والعمل في المجمتع الغربي بامتياز؟! هل تتأذى الرضيعة من أكل تقدمه الأم بيدين نظيفتين يسيل منهما الحب والاهتمام أم من انتزاعها من حضن أمها لتجد مفطومة من الرضاعة ومفطورة القلب تطالعها ملامح غريبة ووجوه لا تعرفها؟!
وفي الفيلم يطالعنا محامٍ شاب من أصول هندية يتحدث لغته بطلاقة وهو شخصيا ابن بالتبني لأسرة نرويجية. يطالعنا في بداية ظهوره بمكالمة حميمية مع أمه ثم يتعامل مع الأم المفجوعة بآلية شديدة ولا مبالاة فهو لا يرى ضررا من انتزاع الأطفال وعرضهما للتبني فهو شخصيا ابن تبني وحصل على أفضل فرص في الحياة. إلا أن المحامية الهندية استطاعت استخراج مكنون إنسانيته عندما طلبته للشهادة أحقية الأم في رعاية أطفالها. ربما حاز على فرص تعليم ورعاية واهتمام لكنه لا يعلم مشاعر الأمومة والبنوة الحقيقية لأنه لم يخبرها.
يمكن للتبني أن ينقذ حياة أطفال فقدوا ذويهم فتقدم لهم فرصة لحياة كريمة ملؤها الحب والاهتمام والرعاية لكنها ضرورة. التبني والاحت1ان والأسر البديلة كلها وسائل إنسانية لكفالة ورعاية أطفال اضطرتهم الحياة لفقد ذوويهم الحقيقيين. لكن أي منطق يؤيد انتزاع طفل من بيئته الطبيعية وأسرته الحقيقية وحضن أمه لمجرد أن طريقتها لا تروق لهيئة عليا أو لسلطة بيدها المنع والمنح؟!
التعليقات