معظمنا حين يغزونا الحزن نغار على أنفسنا من أن نعيش لحظاته فنعبر عليه كرامًا، ونخلق لأنفسنا ألف باب هروب لنفر من قلاع أحزاننا. فننغمس في الحياة متناسين تماما أنها لم تغادرنا أو تتلاشى، بل إنها اختبأت تحت ما أسميناه ظلمات العقل، وكلما هربنا منها أكثر كلما نمت وتضاعفت أكثر فأكثر، تتربص ثغرة أو لحظة سكون لتزيح الستار وتخرج تفترس بلا شفقة، لتتولىَ الزمام كاملًا. فتعصرنا حتى نتمنى الفناء، فتري البعض من شدة الألم قد يقرر بأن يذهب هو بنفسه لقرار الخلاص، ليستظل بظله ظنًا منه أنه هو السبيل الأمثل لانتصاره على وحش الحزن الذي هب عليه ليرديه أرضًا.
لا أخفيكم سرًا، فأنا بارعةً تماما في تقسيط الأحزان والهرب منها بكل الوسائل. لأبحث عن كل ما يشل العقل وأستميت فداء للحظات الانشغال. حتى لا أترك لهذا الوحش الفرصة أن يداهمني حتى في أبسط لحظات الشرود. باهرة أنا في الاستدانة لأحزاني لتعود مرابيه بأضعاف مضاعفة، فتهلكني أيامٍ وليالٍ تستنفد فيها روحي فتأكل كل شيء حتى الصمت!
وطالما بحثت كثيرًا كآخرين عن النجدة، ليرضَى قلبي وعقلي مجتمعين، فيمهلوني هدنة ولو للحظات من السلام النفسي. واعتقد أخيرًا وبعد عناءٍ مضنٍ أنني قد تحصلت على القاعدة الذهبية للخروج من هذا الفخ . أتدرون ما هي؟! ببساطة مُقَنَّعة وجدتها تتلخص في الاتزان.
الاتزان كمعنى وروح بين كَفتَيَّ الرضا الكامل والوعي التام.
فالكفة الأولى هي الرضا الكامل بأننا جميعا تحت أقدار سارية شئنا أم أبينا . فلتمر علينا بمنتهى الخضوع والصبر. فلا شيء سيبقى للأبد، حتى الشمس يومًا ما ستشرق غربًا لتعلن النهاية. قانون الخِلقة الذي يسري علينا ولسنا نسري عليه فكما تنتهي لحظات السعادة بكامل نشوتها . فإن مشاعر الحزن أيضا إلى الانتهاء بكامل أَلَمِها.
كلٌ إلى زوال.
فقد زال وجع يعقوب، وزال ألم أيوب، وزال خذلان مريم، وزال حزن محمد نبي الأمة.
أما الكفة الأخرى فتكمن في الوعي التام بما هو الحزن وكيف يغزونا، وكيف نترك له أرواحنا ليتشدق بها وبنا!؟
إذن فلنبدأ القصة من البداية.
الحياة يا صديقي تحمل في طياتها العديد من لحظات السعادة والفرح، ولكنها تحمل أيضا مساحات من الحزن والألم.
ولمن لم يفهم الحزن سابقا، اسمح لي أن أوضح لك ما هو؟!.
الحزن هو أكبر اختبارًا حقيقيًا يُمكنك من فهم نفسك وأكثر. تعاملك معه هو أكبر دليل على قدراتك، والانتصار عليه من أكبر إنجازاتك... هو كأي مرض عضام، علينا أن نتعافى منه لنستطيع إكمال المسيرة. فحياتنا مليئة بالأحداث المستمرة الصعبة.
فكمْ من شخص عزيز فقدناه.
وكمْ من تجارب مؤلمة مررنا عليها.
وكمْ من سقوط أوجعنا.
إنها الحرب ولكنها مع أعتى الخصوم!! والميدان داخلك أنت!!.
السؤال الذي يلح عليك هنا : كيف يكون النِزال مع خصم لا نراه يخترق لُباب القلب ليرديه قتيلًا في لحظات!.
لتعلم أنه لن يكون التعافي ممكنًا من هذا الوحش إلا بمواجهته في كافة جولاته ابتداءًا من الغضب للإنكار لجلد الذات وصولًا للتقبل مع ظل ظليل من الرضا. فاللعبة كاملة ولن تسمح لك بالقفز على أي من مراحلها دون الانتصار لتنتقل للأخرى، فتواجهه وتعبر لتصل للنهاية رافع راية الفوز بقوة.
إذن فلنطلق للحزن العنان، ولا نأبه لمن يرانا ضعافًا، ولنسمح لأنفسنا بالاستسلام لتدفق المشاعر الحزينة التي تملأ قلوبنا . فالبكاء حق والألم حق والشعور بالوجع حق. واياك ان تدفع للحزن بالتقسيط أو تستدين منه راحتك النفسية . و تذكر أن العاقل من استغل اللحظات المريرة لتكون معلما من الواقع . فهي أكبر وأعظم مرشد في الحياة.
دمتم احبتي ودام حبكم.
التعليقات